|
|
#1
| |||||||
| |||||||
انتحار عريس لم تلبث حارات وطرقات القرية الهادئة .. الساكنة .. إلا أن تحولت إلي حالة من الهرج والمرج .. هوائها حمل رائحة روث الحيوانات والغبار ، بسبب موجات البشر المتلاحقة التي أخذت تندفع في كل اتجاه .. الكل يجري ناحية المستشفي القديمة ، التي تساقطت إحدى أركانها بفضل تسرب المياه من المصرف المجاور .. الكل يمصمص الشفاه ويلطم الخدود .. الكل يجمع بأن ( حليم ) أفندي انتحر لأنه طلع ( مش راجل ) مثل أبوه ... حتى صرخات النساء الحفاة .. المنقوش شعورهن وهو يرج عيدان الذرة في الغيطان .. ويزعج الضفادع النائمة وسط حقول الأرز .. في ذلك الوقت كانت عجلات الترولي الوحيد تصطك بداخل المستشفي ، كلما اصطدمت بإحدى بلاطات الطرقة المخلوعة ، بفضل تآكل إحدى عجلاته.. - يا غالي .. يا طيب .. يا رددتها عروس ( حليم أفندي ) وهي تخبط علي صدرها البارز ووجهها الذي دهنه مسحوق ( الكحل ) .. في حين كان ملقي علي ظهره ، وبعض الماء ينساب من شدقيه في شكل رغوات ... مثبت عينيه الغائمين علي كل الملابس السوداء من حوله .. كل الوجوه أمامه .. كانت شخص واحد .. جامد .. قاسي .. كلها كانت وجه أبيه .... كانت جملة ( حليم أفندي انتحر ) كفيلة بأن تنتزع النوم من عيني ( مسعد التومرجي ) وتوقف سيمفونية الشخير المتصاعدة من بين شعيرات ( شنبه ) المتدلي بداخل فمه ، والذي لولاه لتاه وسط أطفال القرية بفضل قامته القصيرة ووجه الصغير .. كانت كفيلة بأن تنزعه من نومه العميق الذي يغط به فوق ملاءة لا يتضح منها غير لون المطهرات والدم ، واضعا حذائه تحت رأسه .. ثواني معدودات وكان قد صعد درجات السلم المتآكلة إلي الحجرة التي ينام بها الطبيب فوق سطوح المستشفي ، الذي صدمته كلمة ( انتحار ) .. ليس لأنها كلمة محرمة أو غريبة علي أسماع أهل القرية ، ولكن لأن أنبوبة الأكسجين الوحيدة بالمستشفي فارغة ، وأدوات الإسعافات بدائية .... و رغم ذلك كانت الجملة مثل ( الجاز السولار ) الذي شغل محرك الحياة فدبت في جسد المستشفي الميتة منذ فترة طويلة .. دبت في شروخ الحوائط التي نحتت بفعل الزمن والإهمال .. ثواني معدودات ونساء القرية كن قد افترشن الأرض أمام المستشفي ، في شكل لا يختلفن فيه كثيرا عن طائر الوطواط .. الجلابيب سوداء .. والترابيع اللاتي يتلثمن بها .. وأزيزهن الذي يلف المكان حينما تنتقل النميمة من فم إحداهن إلي الأخرى .. كل ذلك وحليم ملقي بلا حراك ، فوق سرير من الحديد مكسو بطبقة من القش المضغوط داخل كيس من البلاستيك .. في حجرة لطخت حوائطها بدم ناشف ولون المطهرات الأصفر .. في حجرة إضاءتها ضعيفة يطلقون عليها حجرة العمليات .. ملقي وصورة أمه في مخيلته لا تفارقه .. ابتسامتها .. دفئ عينيها .. لهفتها عندما كانت تنتصب بقامتها القصيرة وجسدها الضعيف الذي لا يقوي علي حمل مجموعة الجلابيب التي كانت ترتديها اتقاء برودة الشتاء .. تقف واللون الأصفر يعتصر وجهها علي عتبة الدار ، وهي تنادي بصوتها الأبح عليه أثناء لعبه مع أخواته البنات من أبيه .. - تعالي يا كبدي أصل زوجة أبيك المفترية تضربك .. صورة أمه كانت مسيطرة لدرجة أنسته الم وخذه ( إبرة الحقنة ) التي كانت تنخر في لحمه ، وقبضة ( مسعد) علي يده ، كأنه يمسك يد الفأس التي يستخدمها في زراعة أرضه .. كل ذلك لم تمحو صورة أمه من مخيلته.. ولم تنسيه صورة زوجة أبيه حينما تتعمد الذهاب باستمرار ناحية دارهم ، متهمة أمه بالباطل بأنها تريد قتل بناتها .. ساعتها كانت أمه تفترش أرضية دهليز الدار .. وهي تبكي .. وتصرخ .. ضعيفة لا حول لها ولا قوة ... ووالده يركلها بيديه وقدميه وسط لدغات زوجة أبيه ، عندما كانت تردد بصوت يشبه فحيح الثعابين: - لو أنت راجل كانت خافت منك .. ومحولتش تقتل بناتك .. ساعتها كان حليم يمسك برقبته بعد أن بح صوته من البكاء والعويل .. والدم يسبق أنفاس أمه من أنفها .. ومن خوفها عليه من زوجة أبيه .. كانت تحتضنه رافعة يديها إلي السماء بالدعاء علي أبيه وهي خالعة رأسها ... ظل ( حليم ) فترة طفولته ينزوي في أحد الأماكن ، حينما كان يشاهد أبوه قادما من بعيد .. سرت في جسده قشعريرة برد شديدة ، نفضت جسده الضعيف من فوق المنضدة ، حتى كادت تقطع الخرطوم المتدلي من يده والمتصل بزجاجة الجلوكوز التي تم شرائها من المدينة القريبة للقرية ، بعد انتهاء عملية غسيل البطن ببيض الفراخ وبعض المواد الطبية.. بعدها أمر( مسعد) أهل القرية بالتفرق من أمام المستشفي ، لأن حليم سيبقي لمدة أربعة وعشرون ساعة قادمة تحت الملاحظة.. - دى ناس جاحدة يا دكتور .. أنت متعرفهمش علشان غريب .. اسألني أنا .. كان مسعد يثرثر للطبيب مع إشارة بيديه تجاه ( حليم أفندي ) ، وهو جالس القرفصاء علي شريط من البوص القديم أكلت رطوبة الأرض أطرافه ، في حين استند الطبيب بجسده الطويل فوق مكتب قديم ليست له لون محدد فقد تداخل لون المطهرات مع الطينة ، وتم استبدال أرجله بأجزاء من الشجر .. - أبوه كان رجل محترم .. بس مراته التانية كانت عيلة يا دكتور جننته .. أحيانا كثيرة كانت معالم وجه مسعد وصوته يختلفان من حاله إلي أخري ، كأنه ممثل مسرحي يقدم عددا من الشخصيات المختلفة ، كلما اختلفت الزاوية الذي يحكيها للطبيب من حياة ( حليم ) .. فأحيانا كان ينتفض واقفا أمام الطبيب ، رافعا صوته الذي لا يتناسب مع قامته القزمة ، متعجبا من سبب تحمل والده لتسلط لسان زوجة الأب عليه أمام خلق الله .. - أنت منفوخ علي إيه .. ولا فاكر نفسك راجل .. أنا بس اللي عارفة المستور .. وأحيانا أخري كانت تشوب صوته نوع من التبجيل والتقدير ، عندما كان يتذكر الرجل وهو يعطف في السر علي أهل القرية دون علم من أحد ، وبناء مسجد كبير للقرية .. في أثناء ذلك كان وجه الطبيب تسري عليه بعض علامات الرضا والاطمئنان ، كلما حرك حليم عينيه ، رغم أنهما كانا مثبتتان علي بقع الأسمنت التي تساقط من سقف الحجرة.. البقع التي لا تختلف كثيرا عن حياته ، وظهرت بعد أن ماتت أمه وتركته وحيدا في المرحلة الإعدادية .. تحمل الكثير من سوط لسان زوجة الأب .. ولكنه في ذلك الوقت لم يكن يعرف لماذا كانت تقول له .. - بتروح تشتكي لأبوك .. مش لما يكون راجل تقوله .. كلما كان يحاول أن التنبيش ببعض الكلمات عن تصرفاتها ، أو مجيء ( ابن أبو سليم ) الدار من ورائه .. - عاوز أموت .. الموت أحسن أصبحت الجملة الوحيدة التي يرددها حليم منذ خروجه من حجرة العمليات .. - للدرجة دي يا مسعد مش عاوز يعيش .. كان مسعد ينفخ .. ويزفر كلما سمع ذلك ، ويخبط كف علي كف ... - أصل الناس دول يا فندي محسوش بطعم الحرمان مثلنا ... ووسط غيظه أخذ يثرثر للدكتورعن الفضيحة التي تعرض لها والد حليم ، وكانت الضربة التي أماتته .. بعد أن ضبط زوجته مع أبن سويلم .. ساعتها سقط الرجل من طوله ومات .. ودرات زوجته في القرية تقول بأنه مكنش راجل .. توقف الطبيب عن الثرثرة حينما لمح حليم يفيق .. حاول مداعبته ولكنه لم يستجب مرددا .. - عاوز أموت .. الموت أحسن رغم تلك المحاولات لم يستجب لأنه كان في عالم آخر .. عالم فيه صورة أبوة تملأ حوائطها ، صورة وهو يضع كل ماله وتقدير أهل القرية له في يد زوجته.. وصورة وهو يسهر بجوارها الليالي إذا شعرت بالمرض أو التعب .... - ليه بس تنقذوني .. أنا عاوز أموت .. - يا راجل دا أنت لسة عريس والأمل أمامك - عريس .. انفرجت أسارير حليم وهو يرددها .. سرعان ما راح في أحلامه .. راح إلي أول مرة رآها فيها.. صوتها ورقتها الواضحة .. بالتمام والكمال لمح فيها والدته ... ولم يمر وقت طويل علي خطبته لها ، حيث رحبت أمها بالعريس اللقطة ، وكادت تطير من الفرحة بسبب تقدمه لأبنتها ، ولكن ما كان يقلقه أنها ست سليطة اللسان مثل زوجة أبيه .. وحتى يتخلص منها تكفل بكل لوازم الزواج ... في ليلة الدخلة أحس بأنه يود النوم علي صدرها ، كما كانت تفعل معه أمه عند عودة يوميا من المدرسة .. يومها لأن مرة بعد وفاة أمة ينام في أمان.. ولكن في صباح اليوم التالي جاءت الأم يسبقها لسانها .. سألت عن المراد .. وظل المراد فترة أسبوع يحاول ولا شئ .. حتى أخذت حماته تضغط عليه من أجل الذهاب لطبيب معالج .. ساعتها علم لماذا كانت زوجة أبيه تعايره بأنه مش راجل .. وأخذت الكوابيس تلاحقه وتضغط علي صدره .. كوابيس تزداد كلما طال لسان حماته ونمت ونعت حظ أبنتها لدي نساء القرية .. ساعتها شعر بأن موت أبوه كان رحمة .. فشرب السم.. المصدر: منتديات مدينة الاحلام hkjphv uvds |
31 - 07 - 2007, 23:58 | رقم المشاركة : [2] | |||
| شكرا قصه رائعه تقبل مرورى والنهارده فى ميكروبات كثيره شكرا ياخى | |||
01 - 08 - 2007, 13:03 | رقم المشاركة : [3] | |||
| شكرا علي مرورك يا كليوباترا .. وخلي بالك معي دواء جايبهمن بلاد الإفرنجة | |||
01 - 08 - 2007, 13:29 | رقم المشاركة : [4] | |||
| احمد اخي الغالي تسلم على القصة المحزنة انا لله وانا اليه راجعون | |||
01 - 08 - 2007, 14:11 | رقم المشاركة : [5] | |||
| شكرا أخي الجرىء علي مرورك وكلماتك الرقيقة | |||
02 - 08 - 2007, 12:59 | رقم المشاركة : [6] | |||
| | |||
03 - 08 - 2007, 22:29 | رقم المشاركة : [7] | |||
| نهاية مأساوية لعريس حديث الزواج ومن القيل والقال مااتسع له المقــال أحمد خيري نستمتع بحرفك وشدوك دائما فدمت نبراسا مضيئا | |||
04 - 08 - 2007, 13:52 | رقم المشاركة : [8] | |||
| شكرا أخي السامي دائما عطوف جميل الحروف | |||
10 - 08 - 2007, 13:51 | رقم المشاركة : [9] | |||
| أحمد خيري هذا النيل المتدفق أرى فيك الخليفة. لا تحرمنا من قصصك الشيقة دعنا نستمتع بقصصك الجميلة. لك مودتي. | |||
16 - 08 - 2007, 15:54 | رقم المشاركة : [10] | |||
| قصة حزينه رائعه والشكر اولا واخيرا | |||
20 - 08 - 2007, 16:09 | رقم المشاركة : [11] | |||
| كلماتك أخي شريف أكثر من رائعة وشكرا أخي أبو مالك علي رأيك | |||
20 - 08 - 2007, 17:11 | رقم المشاركة : [12] | |||
| شكرا لك اخي الكريم قصه رائعه | |||
31 - 08 - 2007, 07:03 | رقم المشاركة : [13] | |||
| مشكوووور والله يعطيك الصحه والعافيه (((يارب))) | |||
02 - 09 - 2007, 21:56 | رقم المشاركة : [14] | |||
| شكرا أخي مترجم المدينة | |||
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
Powered by vBulletin Version 3.8.7 Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd ترقية وتطوير: مجموعة الدعم العربى |