|
|
#1
| ||||||||
| ||||||||
عصافير الشفق كانت الأيام الأخيرة من هذه الصائفة أشد حرارة على الجبهة الاجتماعية والاقتصادية لم يشهد لها مثيل.تخللتها اضطرابات وتوترات هنا وهناك فعمال مصنع العربات الصناعية لا يزالون في اضراب مفتوح منذ أسبوع ولم تستطع النقابة تلبية مطالبهم أوافتكاك بعضا منها حتى المفاوضات مع الادارة تعطلت بسبب المواقف المتباينة. الحياة لم تعد تطاق،يد الأزمة طالت الكل،أحوال الغالبية العظمى ازدادت سوءا وعم التذمر من الغلاء الفاحش والندرة الشبه كلية بالمحلات والأسواق وظهرت طوابير لا نهاية لها أمام أسواق الفلاح والأروقة وبرزت معها للوجود حرف طفيلية كان لا بد لها أن تكون،وقفت عائقا بين التاجر والمستهلك تخصص فيها بمهارة شباب عاطل عن العمل أو من لفظتهم مقاعد الدراسة. يعتبر محمود واحد منهم.فهو شاب في مقتبل العمر اضطرته الظروف الاجتماعية أن يتوقف عن الدراسة ليكون سندا لوالده العجوز المقعد على فراش المرض منذ سنوات.أنهكه مرض الصدر المزمن الذي أصابه منذ أكثر من عقدين بمناجم الفحم بفرنسا ،لم تعد منحته تفي لا لشراء الدواء ولا لمستلزمات العائلة خاصة مع تدهور القدرة الشرائية بشكلها الفضيع. ها قد حل الخريف وها نحن في بدايته وها هي تباشيره الأولى تطل علينا لكنها ليست كالتي عهدناها والتي وأنا صغير كنت أستمع لجدي وهو يتحدث عنها وكان دائما يردد في كل بداية موسم فلاحي جيد (( العام يبان من خريفه)). تباشير هذه السنة الفلاحية كانت مغايرة لكل سنين عمري.انها من نوع أخر.نوع جديد لم تأت به السماء بل أتى به الرصيف ينذر بأشياء غير معهودة قد تحدث لا محالة.المدينة بأكملها علمت بذلك لكن دون تحديد طبيعتها أو زمانها،قيل بأنه زلزال عنيف سيحدث كذلك الذي شهدته مدينة الأصنام منذ سنوات والذي لا تزال آثاره عالقة بالأذهان وقيل بأنه اعصار مدمر كاعصار ّ ميتش ّ الذي ضرب جزر هاواي منذ شهرين ،برغم موقعنا الجغرافي وخاصية طبيعة مناخ مدينتنا المعتدل الا أن الناس صدقوا الاشاعة وهناك فئة ثالثة اعتمدت على تكهناتها التي تعتبر نوعا ما منطقية واعتقدت بأنها ستنشب حرب مع طرف ثالث بسبب مشروع وحدوي مع طرف ثان. انتشرت حمى الدعاية كالبرق وكثرت التأويلات حتى أضحت هواجس تسيطر على تفكير الناس وسكن الخوف قلوبهم من المجهول مما دفع بالخالة سكينة تحذير محمود قبل مغادرته البيت،فاقتربت منه وبصوت خفيض تترجاه .همست في أذنه بحزن عميق ممزوج بحنان فياض وقالت بصوت مرتجف: - محمود يا ابنى كن حذرا،لا داعي ان تتصل بجارنا رابح اليوم، فلولا نفاذ دواء والدك، لما تركتك تغادر البيت لو كان بمقدورنا شراء عدة علب مرة واحدة ما أضطررت اليوم للخروج،أرجوك ألا تتأخر. لم يفهم محمود لماذا اليوم بالذات تصر الخالة سكينة ان لا يتعطل بالشارع،لم تفعل ذلك من قبل،كان يغيب عن البيت أسبوعا بحاله وقتها كان يشتغل كجندي أو بالأحرى حامل حقائب الشيفون من اسطنبول،مرسيليا أو برشلونة لفائدة تجار الخفاء مقابل الفتات الذي يسد الرمق ويجنب الموت جوعا فتساءل في قرارة نفسه،هل دعاية الرصيف دخلت البيت وعشعشت في عقل العجوز أم انه مجرد احساس نابع من عاطفة أم؟ رد محمود بانقباض مبتسما في وجهها بابتسامة ذابلة لعله يهديء من روعها قبل خروجه واردف قائلا: ستقسم القهوة والزيت وربما حتى صابون القطعة أو السميد.هذا ما أنبأني به رابح،أيرضيك أن لا أذهب لسوق الفلاح؟ لقد اتفق معي كالمعتاد أن يجنبني جحيم الطابور مقابل الشراكة في اقتسام الفائدة عند اعادة البيع.اتريدينه أن يستبدلني بآخر؟ ألا تعلمين أن لولا هذه الدنانير الاضافية لساءت أحوالنا من جديد. بالطبع لا،منحة الوالد لم تعد تكفي،الدواء ارتفعت اسعاره،التعويضات طال أمدها والمعيشة التهبت نارها.اني جد قلقة عليك يا ابني من المجهول،انك عيني الوحيدة التي أرى من خلالها الدنيا. لا تقلقي يا أماه،حقيقة أن المجهول نخشاه ولا يعلمه الا ربنا،فحياتنا كلها مبنية على المجهول لكن لو وضعنا المجهول نصب أعيننا وخشيناه لما خطونا خطوة واحدة خلف هذا الباب لأن من ورائه يكمن المجهول وكما قد يكون شرا قد يكون خيرا،ألم يكن كوكب القمر مجهولا قبل عقدين؟وها هم اليوم يفكرون في تعميره واقتسامه فيما بينهم. خرج محمود مودعا العجوز واضعا نصب عينيه دواء والده في المقام الأول،وبينما هو ينزل السلالم يلتقي بنورا،نورا جارتهم بالطابق السابع وبعد التحية تبتسم ولن تترك له فرصة الكلام وتباغته بقولها : عيد ميلاد سعيد يا محمود.. شكرا لك ،يا صاحبة الذوق الرفيع،لولاك لأظلمت الدنيا في عيني،أنتظرك هذا المساءبالبيت بل أنت من ستشرفين على الحفل رفقة العجوز وبالمناسبة سأطلعك على مفاجأة. بالله عليك لا تترك القلق يسيطر علي.قل لي الآن لم أعد أحتمل،اني أخشى المفاجآت . أتركيها للمساء أثناء الاحتفال كي تبقى فعلا مفاجأة،هيا الى اللقاء. رافقتك السلامة. أخيرا قرر محمود الاعلان عن خطوبته لنورا ليلة عيد ميلاده السادس والعشرين ويضع حدا لحياة لم يعد يتحملها ووحدة قاتلة يود التخلص منها ، في رأيه نورا ملاك..تفيض عطفا وحنانا،مخلصة وعطوفة حتى البكاء. أحبها وتحبه منذ سنين منذ أن جمعتهم العمارة وهي تكبر رأى فيها كل مواصفات المرأة المثالية التي يمكنها أن تجسد كل أحلامه وآماله وبما أنه وحيد أمه حتما ستكون لها بمثابة البنت. وهو في طريقه يبحث عن صيدلية رأى جموعا من الشباب أمثاله تفوق أعمارهم الخامسة عشر وأكثر متجمهرين بالشوارع،كانت جل المحلات مغلقة،صمت رهيب يخيم على المدينة.بعد بحث مضني وقلق متزايد وجد صيدلية مفتوحة وكم كانت فرحته كبيرة فاقت كل وصف،حين عثر بها على ما كان يبحث عنه فدفع ثمنه وانصرف. كانت عقارب الساعة تشير الى العاشرة صباحا عندما انزلق الوضع الأمني ومن كانوا متجمهرين بالشوارع في تجمعات محتشمة وضاحكة والتي أطلق عليها فيما بعد ّشغب عيال ّ تحولت الى مظاهرات عارمة ومشادات عنيفة مع قوات حفظ الأمن. حدث ما لم يكن في الحسبان،ارتفعت ألسنة النيران وكسا الدخان الأسود والأبيض المدينة وحجب الرؤية وانتشرت رائحة الغازات المسيلة للدموع بالأحياء . نصبت المتاريس وأضحى الشارع ساحة لمعركة حقيقية.حرق سوق الفلاح ومعه مدخول محمود الاضافي وحرقت الأروقة،هشمت الواجهات الزجاجية لشركة الطيران وما جاورها من محلات فاخرة،عمت الفوضى والذعر، انها ريح الخريف ،ريح الجنون تعصف بالمدينة وقد فتح المجال للنهب والحرق.وجد محمود نفسه رغما عنه في مقدمة التيار الجارف الذي سيقذف به حيث لا يدري واستحال عليه التخلص من مخالب هذا الأخطبوط الذي أمسك به،في محاولة يائسة منه للتخلص يصاب بطلقات نارية عشوائية مجهولة المصدر فيصاب في صدره، يسقط الدواء من جيبه،تنثني رجلاه ويسقط على الرصيف،يتفجر فمه دما،تجحظ عيناه وتدوسه مئات الأقدام في غير مبالاة.نادى على أمه ثم نورا قبل أن تغمض عيناه نهائيا وتلتحق روحه ببارئها في فوضى عارمة يوم عيد ميلاده السادس و العشرين. انتشرت أخبار أعمال العنف بالمدينة ولم يرجع محمود ومن حين لآخر تتصل نورا بالخالة سكينة تستفسر عن رجوع محمود فتجيبها وكأنها تهذي بـ ّ خرج مع عصافير الشفق ولم يعد ّ،تبقى العجوز على حالها كلما استفسرها أحد عن ابنها تردد نفس الجملةّ وظلت على حالها الى اليوم السادس فيطلعها رابح بنبا سقوط ابنها محمود خلال اليوم الأول من أعمال الشغب وتوجد جثته بمصلحة حفظ الجثث، وسيتكفل شخصيا بمراسيم الجنازة والدفن. مع طلوع شمس اليوم السابع اطلع الأهالي على مخلفات أعمال الشغب يتقرير رسمي علىأمواج الاذاعة حيث قرأ المذيع بيانا مقتضبا جاء فيه ما يلي ّ اليوم العاشر من الشهر العاشر تعود الحياة الى مجراها الطبيعي،لقد شهدت المدينة أعمال تخريب وشغب بعيدة كل البعد عن تقاليد شعبنا العريق وقد كانت الخسائر فادحة تعد بمليلرات الدينارات وبكل أسف ننحني أمام أرواح الضحايا الذي بلغ عددهم مائة وتسعة وستون شخصا... ّ بينما جاءت في الصحف وعلى صفحاتها الأولى صور المنشآت التي خربت لكن عدد الضحايا قفز الى مائة وستة وسبعون شخصا..قد يكون محمود التاسع بعد المائة والستين أو السادس بعد المائة والسبعين فلا يفرق شيئا لكن هل سيكون آخر من يسقط ويحصده العنف بالمدينة ؟ مباشرة بعد استتباب الأمن هب أعيان المدينة بتبرعاتهم لتعويض ما أتلف بغية تسليط الأضواء عليهم لعلهم سيظفرون بمناصب تأهلهم لما كانوا يصبون اليه خفية.بينما يبقى أبو محمود يصارع المرض والخالة سكينة فاقدة الوعي تردد خرج مع عصافير الشفق ولم يعد.في حين تبقى نورا تدفعها عاطفتها الانسانية فتكرس حياتها لخدمة الاثنين بغية مرضاة الله وتخليدا لذكرى من أحبته يوما. _________________ ليس كل الرجال خونة ولا الخيانة حتما امرأة. المصدر: منتديات مدينة الاحلام uwhtdv hgatr |
12 - 02 - 2007, 16:37 | رقم المشاركة : [2] | |||
| اخي الغالي شريف قصه رائعة ومؤثرة الف شكر لك ومزيد من التالق | |||
13 - 02 - 2007, 00:20 | رقم المشاركة : [3] | |||
| هكذا الحضور رغم طولها الا انها شدتني لاتتبعها كلها الى ان وصلت ليس كل الرجال خونة ولا الخيانة حتما امرأة. فوجدت انني لم اكتفي ولم اتشبع بهذا العذب فدمت وعساك على القوة اخي | |||
14 - 02 - 2007, 14:09 | رقم المشاركة : [4] | ||||||||||||||||||||||||||
|
شكرا لكم على الحضور.دمتم بود أيها الأحبة. | ||||||||||||||||||||||||||
14 - 02 - 2007, 14:14 | رقم المشاركة : [5] | ||||||||||||||||||||||||||
|
شكرا لك على الزيارة ودمت بود. | ||||||||||||||||||||||||||
14 - 02 - 2007, 14:26 | رقم المشاركة : [6] | |||
| وهاهو محمود سقط قتيلا لتجمهرات لاناقة له فيها ولا جمل وانتظرت الام لابنها وللدواء فلا أتاها ولدها ولا حصلت على دواء زوجها وهاهي نورا تقف لتضرب مثلا في الانسانيه وعنوان للوفاء والتضحية cherif rouan بين تباشير الفلاحه ورياح التأويل تتبعت بصمت فوجدت انك رائع فدمت بهذه الروعة الســـامي | |||
15 - 02 - 2007, 16:46 | رقم المشاركة : [7] | |||
| قصه مؤثره جدا ونهايه حزينة مؤسفه شكرا لك ايها المبدع ننتظر جديدك و دمت بخير | |||
15 - 02 - 2007, 22:39 | رقم المشاركة : [8] | |||
| شكرا للأخ بيسان على الاطراء. مع كل الود والتقدير. | |||
22 - 02 - 2007, 20:42 | رقم المشاركة : [9] | |||
| الف شكر لك اخي العزيز على ماكتبته هنا استمتعنا كثيرا ايسلممووو | |||
25 - 02 - 2007, 00:17 | رقم المشاركة : [10] | |||
| اخي الغالي موضوع رائع جدا وخيال اتسع حتى سطر كل هذه الروعة مشكور اخي الكريم ودام حضورك | |||
26 - 02 - 2007, 16:24 | رقم المشاركة : [11] | ||||||||||||||||||||||||||
|
نسمو الى العلا بفضلكم ايها الاحباء.شكرا على المرور. | ||||||||||||||||||||||||||
26 - 02 - 2007, 22:03 | رقم المشاركة : [12] | |||
| القصه رائعه مشكووووووووووووووور | |||
02 - 03 - 2007, 12:45 | رقم المشاركة : [13] | ||||||||||||||||||||||||||
|
شكرا على المرور. دمت بود. | ||||||||||||||||||||||||||
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
Powered by vBulletin Version 3.8.7 Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd ترقية وتطوير: مجموعة الدعم العربى |