منتديات مدينة الاحلام

منتديات مدينة الاحلام (http://m.dreamscity.net/)
-   قسم القصص والرويات (http://m.dreamscity.net/f9.html)
-   -   صوت الموت (http://m.dreamscity.net/t34884.html)

صابر المسالم 15 - 09 - 2010 19:42

صوت الموت
 
صـــــــوت المــــــــــــــــوت !!! ...الكاتبة ::: Xسلمىx
الجزء الأول
الساعـة الحادية عشر ليلاً ..
كان " حبيب " يصعد السُلم الذي يؤدي لغرفته .. و قد عاد من اجتماعه مع صَحبه .. كان طويل القامة بما يكفي و سمين قليلاً و كثير من البثور تملئ وجهه و ملامحه الحادة .. رمى بسيجارته على إحدى الدرجات و سحقها ثم التفت لشاب يدخل المنزل معه الحارس يحاولان حمل الحقائب..
تنهد مقرراً معاونتهما ! .. هبط على السلم و هو يراقب الشاب و هو يدفع بالحقائب و نظارته السوداء الكبيرة تغطي نصف وجهه .. و هو يرتدي معطف أسود طويل و ( سكاف ) يلفه حول رقبته ..
اقترب حبيب منه و قال مبتسماً :" مساء الخير، هل أنت مستأجر جديد؟!"
رفع الشاب رأسه له و كان يبدو أن الطقس قد سبب له زكاماً أو حمة ..همس بصوت مبحوح :" نعم "
و رفع الحقيبة على السلالم بجهد بالغ ..فأسرع حبيب لحمل الحقيبة عوضاً عنه قائلاً :" حياك الله .. "
و مضى حبيب يمشي خلفه الشاب فعاد يخاطبه حبيب و هما على باب الغرفة :" نورتنا يــــــا ......"
ابتسم الآخر :" أُدعى حُسين .. "
ضحك حبيب :" و أنا حبيب ، هذه غرفتي .. وداعاً "
لوح بيده و غادر بينما دخل حُسين غرفته و هو بالكاد يتنفس .. أغلق الباب خلفه .. و خلع النظارة الشمسية و بادر بخلع معطفه الطويل و حذاءه و رمى بنفسه في السرير و غاص تحت اللحاف و كم كان مرهقاً للغاية .. و ما إن أغمض عينيه قليلاً إلا و سمع طرقا على الباب ..
زفر بضيق و هو يفتح عينيه ببطء.. و نهض بتكاسل و هو يرتدي الروب ..مشى بتعب ناحية الباب و فتحه .. هنا ظهر وجه حبيب بابتسامته المزعجة و هو يقول :" يبدو أن صاحبنا مشتت "
عقد حُسين حاجبيه فقال حبيب و هو يجر الحقيبة :" نسيت حقيبتك الثانية "
تنهد حُسين و سحب حقيبته للداخل هامساً :" أشكرك "
بينما عاد حبيب لغرفته و كان من طبعه اجتماعياً .. جلس على سريره و بات يفكر في هذا المستأجر الجديد و شعر به مألوف للغاية و كأنه يعرفه من زمن ..
--
طلع الصبح .. و خرجت الآنسة " سميرة " من غرفتها .. كانت امرأة تبلغ السابعة و العشرين من عمرها .. و هي صاحبة هذا المنزل الذي قسمته لغرف كثيرة للاستئجار ..امرأة مذهلة .. آية في الجمال .. ببشرتها البيضاء و عينيها الفيروزتين و حاجبيها المرسومان بدقة و شفتيها المخمليتين ..
كانت مجرد امرأة وحيدة لكنها استفادت من ورث والدها و جمعت لها أسرة .. لفت الخمار على رأسها و راحت تجهز طعام الفطور .. فلما رأت الحارس العجوز يدخل المنزل محملاً بصناديق كثيرة .. قالت له مبتسمة :" عم طاهر ؟ هل اشتريت البطاطا كما أوصيتك ؟ "
وضع الصناديق على الطاولة قائلاً :" نعم يا ابنتي .. و اشتريت بعض الفواكه "
اتجهت سميرة لتفحص الصناديق و همست :" جيد .. "
و عادت للمطبخ لتعد الفطور فقال لها الحارس :" المستاجر الجديد أقبل ليلة البارحة "
قالت سميرة و رأسها داخل الثلاجة تبحث عن المُربى :" أحقاً ؟! لم يسعفني الوقت لتنظيم الغرفة له و تعطيرها .."
و نظرت له قائلة :" عم طاهر تفقد سقف غرفة المخزن إذ كان بحاجة لترتيم ... بما أن الأمطار محتمل ان تهطل قريباً "
" حسناً "
راحت تجهز طعام الفطور على الطاولة .. ثم اتجهت لغرف مستأجريها لتدعوهم للفطور .. طرقت الباب على الآنسة ( سُهى ) و هي فتاة صغيرة السـن هاربة من منزل أهلها.. فتحت الباب بهدوء و أطلت على سهى التي تضع السماعات على أذنيها و كلها طرب بالموسيقى الصاخبة..ابتسمت سميرة و اقتربت منها و هي تربت على كتفها :" صباح الخير سُهى"
رفعت سهى رأسها:" بخير "
فقالت سميرة :" بخير؟ ... هيا تعالي لتناول الفطور "
"حسناً"
هزّت الأخرى رأسها و خرجت سميرة ناحية الغرفة المجاورة و هي غرفة ( حبيب ) و هو مستأجر منذ اسبوعين ..طرقت الباب و نادت :" أستاذ حبيب .. أستاذ حبيب "
كان هو غاط في نوم عميق لكن ما إن سمع صوتها إلا و هب من سريره ناحية الباب و كان متقصداً أن يفتح الباب و هو يرتدي ملابسه الداخلية و حسب ..
تسمرت مصدومة رغم أنه يتقصد أن يفعل ذلك مرارا .. تأملته و هو يبتسم ابتسامة عريضة خبيثة .. و راح يتأملها بجسدها الضئيل و الخمار الكحلي الذي ترتديه و الثوب الداكن .. كانت تميل لإرتداء الملابس الداكنة و ذلك لا يظهر إلا بياض بشرتها الندية .. عينين واسعتين بلون فيروزي قاتم .. و شفتين بارزتين ورديتين .. نظرت له بارتباك ثم غضت بصرها :" أستاذ حبيب الفطور جاهز "
و استدارت لتتجه للغرفة التالية إلا أنه استوقفها :" سميرة ! "
حاولت أن تبتسم :" نعم ؟"
ابتسم :" لا تناديني أستاذ حبيب ... "
و ضحك قائلاً :" لأني لم أدرس أصلاً .. "
اشمئزت من أسلوبه الكريه و اتجهت نحو الغرفة التالية .. و كانت غرفة حُسين المستأجر الجديد.. طرقت الباب مراراً حتى أتاها صوت سعال قوي ثم صوت مبحوح :" مـن ؟! "
" الفطور جاهز "
" حسناً .. شكراً "
و انتقلت للغرفة التالية لكنها تذكرت أن السيدة صباح في المشفى منذ ليلة البارحة و هي حامل ! ربما تلد قريباً .. جلست سميرة و قد اجتمع العم طاهر و حبيب و سُهى و حُسين على طاولة الطعام ..
كان حُسين يتناول البيض المقلي بهدوء شديد فنظرت له سميرة و صبت له الشاي في كوب ما قدمته له قائلة :
" الشاي جيد للزكام "
هزّ رأسه :" شكراً لكِ "
رفع حُسين رأسه فرأى حبيب يحملق به بفضول ثم قال :" وجهك مألوف للغاية "
نظر له حُسين ببرود فقالت سميرة :" ماذا تعمل ؟ "
نظر لها لبرهة ثم عاد يحتسي الشاي ببطء :" مهندس .. و لكني أخذت إجازة يومين .."
تأملته سميرة قائلة :" هل أعجبتك الغرفة ؟! "
" جيدة "
" و هل أعجبك سعر الايجار ؟ "
نظر لها بنظرات باردة و همس :" نعم .. "
و نهض قائلاً :" أشكركم "
و غادر بينما نهض العم طاهر قائلاً لسميرة :" ابنتي .. سوف يأتي بعض العمال لترميم المخزن ظهر هذا اليوم "
هزت الأخرى رأسها :" شكرا"
بمجرد أن غادر العم طاهر غادرت معه سُهى التي تبلغ الثامنة عشر من عمرها ...
رأت سميرة حبيب يرمقها بنظرات عميقة و ابتسامة مخيفة ثم قال :
الجزء الثاني
بمجرد أن غادر العم طاهر رأت سميرة حبيب يرمقها بنظرات عميقة و ابتسامة مخيفة ثم قال :
" أحتاج أن تغسلي ملابسي "
هزت رأسها :" كما تشاء .. فقط ضع الملابس في سلة الغسيل لأقوم بغسلها "
و نهضت مسرعة .. كانت بحاجة لتفقد سُهى من حين لآخر كونها فتاة طائشة تعيش أقصى مراحل جنون المراهقة .. ثم اتجهت لغرفة حُسين .. طرقت الباب فجاءها صوته :" تفضل "
فتحت الباب ببطء و اقتربت مبتسمة من حُسين الذي يعمل على الحاسوب المحمول .. رفع رأسه ناحيتها و ابتسم بدوره فقالت :" أتريدني ان أرتب الغرفة ؟! "
نظر هو للملابس الملقاة هنا و هناك و شعر بالحرج ثم قال و هو يحك شعره :" اعذريني .."
ضحكت بلطف و هي تنحني لالتقاط أحد الأقمصة ثم قالت :" أنه واجبي .. "
" هل أساعدكِ ؟"
التفتت له بدهشة ثم اقتربت قائلة :" قلتُ لك أنه واجبي ! يمكنك التجول في الحديقة ريثما أنتهي من ترتيب غرفتك "
ابتسم و نهض حاملاً حاسوبه المحمول و خرج من الغرفة و هو يراقبها و هي تشمر عن ذراعيها لتبدأ في عملها ..
سميرة إنسانة بسيطة للغاية لم تكمل دراستها الثانوية ..لكنها لطيفة جداً و حساسة و رقيقة أيضاً ..و جميلة للغاية .. شمرت عن ذراعيها الناصعتين البياض و كانت تضع خاتماً ناعماً في اصبعها البنصر ..
نزعت الفراش و راحت ترتبه من جديد .. بينما خرج حبيب من غرفته و صادف حُسين الذي يمشي خارجاً من المنزل .. خاطبه بصوت عالي :" آآ .. يا هذا .. "
استدار له حُسين مقطباً حاجبيه فقال حبيب :" نسيت اسمك "
نظر له الآخر باحتقار شديد و خرج من المنزل .. هنا قفز حاجبا حبيب للأعلى و هو يفكر .. أنه لا يعطيني أدنى اهتمام .. يا ترى لماذا أشعر أني أعرفه .. و أنه شخص مهم بالنسبة لي ؟
مشى و هو ينادي :" سميرة ! .. سميرة "
تنهدت سميرة و هي تسمعه يناديها و كانت في غرفة حُسين .. صاحت :" أنا هنا "
أقبل حبيب و فتح الباب مبتسماً و هو يراها تعمل بجد .. اقترب منها و قال هامساً :" ياهٍ من الصباح الباكر و أنت تعملين ؟ ألا تتعبين ؟! "
نظر له باستياء ثم قالت :" لا أبداً .. هذا واجبي "
فقال حبيب:" سمعت أن ثمة مستأجر جديد سيأتي قريبا "
أخرجت من جيبها قائمة معينة و قالت :" نعم ، أسمه عبد الوهاب كمال .. و سوف أجهز له الغرفة المجاورة لغرفتي "
شعر حبيب بالغيرة ! ثم قال :" هل يمكنني رؤية القائمة ؟"
استغربت سميرة طلبه لكنها ناولته القائمة .. أخذ القائمة و هاله ما رأى ..... !!!!!!!
تسمر مصدوماً !!
عاد لغرفته و هو يمسك برأسه يكاد يغشى عليه .. هوى على السرير و هو يفتح عينيه مصدوماً ثم همس :
"مستحيــــل !!!! مستحيــــــــل ! هل هو هو ذاته ؟! "
--
الساعة شارفت أن تصبح الحادية عشر صُبحاً .. رفع حُسين رأسه من شاشة اللابتوب و هو يرى امرأة تدخل من خلال الباب الرئيسي و يبدو أنها حاملاً .. مشت بصعوبة فرأى سميرة تخرج من المنزل و تسرع ناحيتها لتساعدها .. ابتسم هو لطيبة هذه الفتاة .. دخلت المرأة و أقبلت ناحيته سميرة قائلة :
" لقد انتهيت من ترتيب غرفتك "
ابتسم هو :" هل أتعبتكِ ؟"
ابتسمت هي :" لا أبداً "
و دخلت المنزل و هو يراقبها بناظريه .. نهض حاملاً حاسوبه و دخل المنزل متجهاً لغرفته بينما كان حبيب يتلوى ألما على سريره للذكرى الأليمة المفجعة التي مرت بخلده .. دخل حُسين غرفته و استنشق الرائحة العطرة في الغرفة و رأى التنسيق و الترتيب الانثوي الذواق .. كم سُعد بذلك و هو يرى ملابسه مصفوفة بشكل مرتب داخل الخزانة و السرير كان مرتباً للغاية .. كم افتقد لمسة الأنثى في حياته .. لأنه عاش طويلاً يعتمد على ذاته في كل شيء .. كونه يتيم الأبوين منذ أن كان صغيراً و نشأ في منزل خالته و منذ أن بلغ عمره الثامنة عشر فأنه عاش لوحده ..
ابتسم و هو يتلمس زهور الاقحوان و عرف أن من فعلت ذلك هي فتاة في قمة النعومة و اللطف .. جلس قرب الشرفة و سرح قليلاً فقطع سرحانه صوت طرق الباب..
" تفضل "
هنا دخل حبيب الغرفة و وجهه أسود و عينيه حمراوتين .. همس :" هل تسمح لي بالتكلم معك "
عقد حُسين حاجبيه و استغرب تصرفات هذا الرجل لكنه قال :" تفضل "
اقترب حبيب حتى بلغه و جلس أمامه مباشرة و حملق بوجهه مطولاً و في داخله يقول :" أنه هو ! .. هو ! "
همس :" ما... ما أسمك الكامل ؟! "
تأمله حُسين ثم قال :" حُسين عبد الكريم أحمد .. لمَ؟"
عض حبيب على شفتيه ارتباكاً ثم اقترب بكرسيه من حُسين و نظر له مطولاً :" حُسين ؟!!! لقد تغيرت كثيراً "
هنا بدأ حُسين بالقلق و هو يرى وجه حبيب يتقلص و يتجعد ثم انفجر ببكاء غريب .. فتح حُسين عينيه بصدمة و همس :" ما بك؟!! "
فوجئ بحبيب يحضنه بقوة و يهمس :" أنا .. أنا حبيب ..ابن خالتك "
--
للبرهة الأولى لم يستوعب حُسين الفاجعة التي حلت لكنه و بحركة تلقائية أبعد حبيب عنه بنفور و الذكريات السوداوية تمر بذاكرته فتلهب بداخله ناراً كانت خامدة منذ سنين ..
تأمل وجه ابن خالته و بعض الذكريات المضبضبة الغير واضحة تمر برأسه .. أشار باصبعه ناحية حبيب قائلاً باستنكار :" أنت حبيب الذي ......... ؟!! "
وجه حبيب تحول في عيني حُسين لوجه شيطان قذر مخيف .. و خرج عن هدوئه بصرخة زلزلت المنزل بأسره و أربكت سميرة التي كانت تطهو ..
" أخرج حالاً يا حقير "
تأمل حبيب حُسين الذي يقف مرتبكاً و شبح دموع ترقرق بعينيه ..نهض حبيب و شعر أنه لو ظل أكثر سوف يهجم عليه حُسين و يقتله ..
نهض بألم و همس :" أنا آسف .. كانت مجرد ......"
احمر وجه حُسين و هو يصرخ :" أغرب عن وجهي يا قذر "
خرج حبيب مسرعا و ترامى حُسين على الكرسي و هو يفك زر قميصه العلوي ..تنفس بصعوبة و أغمض عينيه و ذكرى شنيعة تدور برأسه..
ذكرى لطالما قُتل ألف مرة و هو يتذكرها .. نساها طويلاً منذ زمن لكن آثارها لم تذهب .. غيرت فيه كل شيء ... ذكرى حذفت الكثير من إنسايته و مبادئه .. جعلته شخص مجهول .. حتى هو يجهل نفسه ..
وقفت سميرة تراقب حبيب الذي خرج من غرفة حُسين منكس الرأس .. و شعرت أن ثمة أمر جرى ..
الجزء الثالث
كان يلهث بارتباك و عينيه احمرتا بشكل مريع .. أسرع لحقيبته اليدوية و هو يبحث بتشتت عن حقنة المهدئ .. و كان يحتاج هكذا حقن بطبيعته حيث أنه إذ غضب فأنه يتحول لكائن غريب ..و هو بشخصيته الهادئة نادراً ما يغضب .. راح يبحث عن الحقنة و طرق الباب يدوي رأسه .. قال و هو يرص على أسنانه :
" تفضل "
فتحت سميرة الباب و هي تحمل صينية تحوي فنجان قهوة ، كانت فضولية بما يكفي لكي تستطلع الأمر .. رفع رأسه و نظر لها للحظة ثم عاد يفتش هنا و هناك ..وضعت سميرة الصينية على الطاولة و جلست أمام حُسين و هي تراقبه :" أتحتاج مساعدة "
لم يرد بل أخرج الحقنة من الحقيبة و باشر بتركيبها .. ثم وجهها ناحية باطن ذراعه و سميرة ترمقه بصدمة ..
--
جلس حبيب في الصالة مرتبكاً .. خاف أن يحكي ابن خالته لسميرة كل شيء .. لكن عاد يطمئن نفسه أن ما جرى لا يُحكى على الألسنة ..
بينما كانت سميرة تراقب حُسين و هو يهدئ تدريجياً و ينظر لها من حين لآخر بنظرة ميتة .. همست :
" هل من خطب أستاذ حُسين ؟! "
هزّ رأسه سلبياً :" لا "
شعرت أن حبيب مُخطئ و لكن كيف يتشاجران و هما لم يعرفا بعضهما البعض إلا من ليلة البارحة .. بينما كان حبيب يفكر .. يآه !! هذا هو ابن خالتي حُسين؟!! هذا هو ..كم تغير .. و أصبح رجلاً ..
يا للصدفة الغريبة و المؤلمة !
--
راحت سميرة تجهز الغرفة المجاورة لغرفتها.. استعداداً لقدوم المستأجر الجديد .. بينما كان حُسين يستلقى على سريره على جنبه الأيمن و هو يسترجع تلك الذكرى المروعة ..
رجع بذاكرته للخلف ، حيث كان فتاً لا يتجاوز الخامسة عشر من عمره .. يعيش في منزل خالته .. و لم يكن أبناء خالته يعطونه أدنى اهتمام و كان هادئاً منذ صِغره .. كان يشارك ابن خالته حبيب غرفته ..
" هيه أنت "
التفت لحبيب الذي يكبره بأربع سنوات .. كانت ملامحه شرسة و هو يغلق الباب بالمفتاح جيداً ثم يقترب بشكل مريب .. كان حُسين في ذلك الوقت يمسك براوية اندمج فيها بشكل كبير و لم يكن منتبهاً لحبيب الذي يرمقه بعينين حادتين ..
" ماذا تريد ؟"
قال ذلك و هو لم يرفع عينيه عن الرواية بينما كان حبيب يتأمله بنظرات مريبة .. اقترب منه و همس :
" اسمع ، دعنا ......."
و صمت فاتحاً المجال لابن خالته للفهم .. بينما كان الآخر غير مركزٍ معه .. حيث قال بانزعاج :
" ماذا ؟! "
تنهد حبيب و جسده يحترق بالشهوات المحرمة التي أثارتها الأفلام الاباحية .. و لم يجد مصباً لهذه الشهوات إلا ابن خالته المميز بشكله ..
كانت الساعة تشير للواحدة ليلاً .. و الجميع يغط في نومٍ عميق .. عاد حبيب يرمق ابن خالته الذي يتجاهله .. فاقترب و جلس على السرير و سحب الرواية و رماها بعيداً ..بينما ظل حُسين يرمق ابن خالته مستغرباً و مستنكراً ..
" ماذا فعلت؟!!! هل أنت مجنون ؟!! "
فوجئ به يقبض على قميصه بقوة و هو يهمس بعنف :" ركز معي يا حيوان "
صُدم حُسين به و همس :" ما بك ؟"
تنهد و اقترب من ابن خالته أكثر و همس بأذنه ببضع كلمات .. كانت كفيلة بأن تحوله لصنم لا يتحرك .. من هول الصدمة و الفاجعة .. همس حُسين :" أعد ما قلت "
ازداد حبيب عصبية و أمسك بذقن حُسين و قال بنبرة تهديدية :" سأفعلها يا حُسين "
و راح يتأمل ملامح الصدمة على وجهه فارتخى صوته بحنان و هو يقول :" نصف ساعة فقط .. دعني أفعل ما أريد و سوف لن أعيدها أبداً .. ارحمني سأموت إن لم أفعلها "
اقترب بوجهه من وجه حُسين الذي يتأمله مصدوماً و مصعوقاً !! راح قلب حُسين يضرب بقوة .. و نهض بشكل مفاجئ للهرب من هذا المتوحش .. فأمسكه بقوة و أعاده للسرير .. و غرق معه في عراك عنيف .. نزف دم من فمه و من رأسه .. و لأن حبيب صاحب البُنية الأقوى فأنه أخرج شريط لاصقاً بدأ بتقييد ابن خالته به .. و حكم فمه جيداً ..
وقف يتأمله و أعمته الشهوة ففعل ما أراد فعله ..
و بعد ساعة كاملة .. أفاق حبيب من شهوته التي أعمته .. ارتدى ملابسه على عجل و هو يتأمل ابن خالته .. كم كره نفسه و الطريق الذي سلكه الذي أوصله لأفكار شاذة عن القيم و الأخلاق و فطرة الانسان .. اقترب ببطء من حُسين المُلقى على السرير على وجهه ..
و دم فمه لازال ينزف في الوسادة .. و هو يغمض عينيه بإرهاق شديد .. و شعره التصق بوجهه من العرق المتصبب .. انحنى و همس بقلق :" حُسين ؟ هل أنت حي ؟"
مد يده و هزه لكي يستفيق من غشوته .. حينها رفع حُسين رأسه ببطء و يديه لازالتا مقيدتان ..نظر لابن خالته بنظرات ميته .. و صوت الرياح في الخارج يشبه صوت الموت و هو يأتي كعاصفة من الجن ..شعر حبيب بالرهبة و الخوف ..و احتضن ابن خالته بقوة خائفاً من نفسه ..
هنا سمع همسه :" ماذا فعلت بي؟!!! "
نظر حبيب لحُسين بندم .. و قال :" ستنسى يا حُسين .."
--
عاد حُسين للواقع ، و هو يشعر بنار متأججة بداخله ..هذه الذكرى جعلته يعاني كثيراً في حياته .. هذه الساعة التي استمتع فيها حبيب على حسابه غيرت الكثير و الكثير .. هذا الشذوذ الذي رآه بعينيه جعله يكره حبيب كرهاً كافياً بتفجير الكرة الأرضية ..
شعر بذلك الانسان الذي تجرد من معنى الانسانية أنه شخص منحط قذر خالي من القيم و الأخلاق .. لا يعرف ديناً و لا يعرف رباً .. ظن حبيب أن تلك الساعة ستُنسى مع الأيام و لكن من ينسى ساعة افتقد فيها رجولته و شرفه ؟!!
بسبب تلك الساعة الملعونة و القُبلات الشاذة التي وزعها حبيب بعشوائية و بدون وعي .. حذف حُسين الكثير من الأمور في حياته ! .. و وضع قوانين صارمة على نفسه كأنه هو المذنب ..
أولها .. حذف مفهوم الزواج من جذوره .. ، ثانياً ، عدم تقبل الصداقات أبداً .. ثالثاً .. عدم التكلم عن الماضي .. و رابعاً و خامساً و سادساً ... و عاشراً ..
كم غيرت تلك الذكرى المشؤومة فيه .. و خطفت الابتسامة من شفتيه .. ظن أنه نسى تلك الذكرى لكن فإن آثارها لازالت باقية ..
--
وقفت صباح ببطنها المنتفخ بجانب سميرة و هما تراقبان العمال يرممان المخزن .. خرج حبيب من غرفته و نظر لسميرة بنظرة طويلة انتبهت لها .. ارتبكت و هي تراه يبتسم لها ثم يقترب قائلاً :
" أتحتاجون مساعدة ؟!"
شعرت سميرة بضيق لكنها قالت بلطف منها :"لا أظن فالعمّال كثر "
و اتجهت للمطبخ قائلة :" سأعد الغداء .."
نظر لها و هي متجهة نحو المطبخ فأسرع ناحيتها ..دخل المطبخ بهدوء و هو يراقبها ترفع خمارها عن شعرها الناعم المرفوع .. عادت تنسق الخمار جهلاً منها لوجود ذلك الرجل و هو يتأملها مبتسماً .. انتظرها حتى تبدأ بعملها .. فتنحنح للدخول .. أدارت برأسها ناحيته .. و حاولت أن تبتسم :
" أتريد شيئاً سيد حبيب ؟ "
أطلق ضحكة مدوية و اقترب منها قائلاً :" أستاذ و سيد و غداً ستقولين دكتور حبيب "
تنهدت و قالت :" و لمَ لا ؟ المهم أن نحترم بعضنا بعضاً "
و راحت تنسق أطباق الطعام على الطاولة .. فقال هو بابتسامة مزعجة:" أريدك أن تدللي اسمي فتقولي .. حبيبي "
فتحت عينيها بصدمة متسمرة لجرأته .. و فكرت ماذا ترد عليه و نار الغضب تسعر بداخلها .. رمقته بحدة و قالت :" اسمع يا أستاذ حبيب .. عليك عدم تخطي الخطوط الحمر فأنا في النهاية لا أقبل بهكذا تجاوزات "
و أشارت للباب قائلة :" و رجاءاً .. لا تشغلني عن عملي"
ابتسم لغضبها المُفاجئ و كم كانت رائعة و هي غاضبة .. و خرج .. فتنهدت هي متقززة من تصرفاته المزعجة .. و فكرت ماذا يقصد من ذلك..
كونها فتاة لم تتزوج و لم يحالفها نصيبها بالرغم من جمالها .. إلا أن افتقادها للشهادة الجامعية و الثانوية و مكوثها الطويل في المنزل هو كان حاجزاً لألا تتزوج ..
كانت كأي فتاة تتمنى الزواج و تكوين أسرة بما أنها وحيدة .. و لكنها الله لم يأتِ بنصيبها بعد .. و لذا فأنها عندما لاحظت اهتمام حبيب بها .. لا تدري لماذا قررت أن تلين في معاملته في المرة القادمة ..
الجزء الرابع
طرقت الباب على سُهى و هي تصيح :" سُهى الغداء "
و اتجهت ناحية غرفة حُسين و طرقت الباب قائلة :" حُسين الغداء "
هنا جاءها صوته :" سميرة ! أدخلي "
فتحت الباب ببطء و رأته و هو مستلقي على سريره و ينظر لها بعينين ناعستين كئيبتين .. تاملته باهتمام بالغ .. شعره الأسود الكثيف الناعم .. بشرته البيضاء المائلة إلى الاحمرار .. شفتيه الحمراوتين .. لحيته الخفيفة .. عينيه الكئيبتين ..
همس قائلاً :
" أيمكنك جلب الغداء هنا ؟! "
اقتربت منه و وضعت كفها على جبينه قائلة :" الحمى ازدادت يا أستاذ حُسين يجب أن تراجع الطبيب "
نظر لها بذات النظرة ثم قال :" لستُ في حال جيدة للخروج من المنزل "
" لا بأس ساعتني بك و غدأ سيأتي الطبيب الجديد للمدينة .. سوف أستدعيه .."
ثم ابتسمت له بلطف :" سأجلب طعام الغداء الآن "
و غادرت و هو يراقبها و يبتسم تدريجياً .. بالرغم من الذكريات التعيسة التي مرت بخلده فأنها و بعنفوانها و طريقة حديثها الرائعة سحرته .. و أنسته تلك الذكرى اللعينة !
--
باشرت صباح بتناول طعامها و هي تخاطب سميرة الآتية :" سميرة ، انتظرتك لتقومي باستخراج البلح من السمك لنا "
نظرت سميرة لسهى و حبيب و هما لم يباشرا بتناول حصتهما و كانت قد عودتهم أن تقوم باستخراج البلح من السمك بنفسها .. كانت متعودة أن تدلل الجميع .. اقتربت و هي تحمل الطبق الخاص لحُسين قائلة :
" اعذروني و لكن المستأجر الجديد مريض يجدر بي العناية به "
نظر حبيب طويلاً لها و هي تبتعد .. كان يريد أن يذهب لحُسين و يطمئن عليه و لكن .. لا يريد أن يفجر براكين خامدة منذ زمن..
--
اعتدل و هو يراها تدخل الغرفة تحمل صينية تحوي طبق أرز و طبق سمك مقلي و طبق سلطة و كوب عصير ..
ابتسم و هو يأخذ الصينية من يديها و يضعها في حجره ثم يرفع رأسه لها و يبتسم :" أشكرك "
ابتسمت هي و جلست على مقربة و قامت باستخراج البلح من الأسماك و وضعها في صحنه فوق الرز .. نظر لها و ضحك :" تشعرينني أني طفل "
ضحكت هي بدورها و قالت :" أحب أن أفعل ذلك للجميع .. "
و قالت و هي تراه يبدأ بتناول طعامه :" هل أعجبك ؟ "
ابتسم لها :" جداً .. "
فتابعت عملها باستخراج البلح و هي تقول :" في أي جامعة درست ؟"
" في الجامعة الحكومية في المدينة .. "
تنهدت هي و هي تقول :" أتعلم ؟ أحلم أن أدرس و أعمل بوظيفة كوظيفتك "
قال باهتمام :" و لماذا؟! ألستِ مرتاحة بعملكِ هنا ؟!! "
هزّت رأسها سلبياً قائلة :" أشعر أني أمية .. "
ابتسم فضحكت هي بنعومة و عفوية و قالت :" لا تسخر مني ولكني حقاً أشعر أني لم أنجز شيئاً في حياتي"
تأملها مبتسماً و هو يعجب بها أكثر فأكثر .. بنعومتها و حبها لخدمة من هم حولها ..
خاطبها :" هل تناولتِ غداءك ؟"
هزّت رأسها سلبياً و قالت :" أتناوله و أنا أنتشل الصحون من المائدة "
ابتسم طويلاً و هو يراقبها ..
--
صباح اليوم التالي استيقظت سميرة من نومها على طرق الباب.. ردت :" مـن ؟! "
" أنا طاهر .. المستأجر الجديد يود مقابلتك "
" حسناً .. "
نهضت من سريرها مسرعة و ارتدت خماراً زهري اللون ثم انتعلت شبشبها و خرجت من غرفتها مسرعة و هي تبحث بعينيها عن المستأجر الجديد..
اقتربت للصالة حيث كان يجلس و يدخن .. كان رجلاً يخطو بعمره للأربعين ..يبدو ثرياً من أناقة البذلة و جودة السيجارة .. التفت لها و نهض مرحباً ..
ابتسمت له و جلست على الكرسي المقابل قائلة :" أنتَ السيد عبد الوهاب كمال ؟! "
" نعم .. "
و تفحص المنزل بعينيه قائلاً :" سيدة سميرة يبدو أن منزلك راقي للغاية "
ابتسمت بحرج و قالت :" أنا لستُ سيدة بل آنسة "
نظر لها بسرعة مندهشاً .. فسميرة أقل شيء يقال عنها ، فائقة الجمال ! .. ابتسم :" عذراً "
فابتسمت هي بدورها :" لا بأس ، هل نتناقش في موضوع تكلفة الايجار ؟! "
" نعـم "
--
يبدو أن السيد عبد الوهاب ارتاح نفسياً من المنزل و من غرفته المُعطرة المزينة بالزهور ..ذلك رفع معنويات سميرة كثيـراً .. تذكرت أن تذهب للاطمئنان على حُسين .. حالته كانت سيئة .. تركت الجميع على مائدة الافطار و حملت صينية تحوي أطباق خاصة لحُسين ..
بمجرد أن اقتربت من الغرفة سمعت صوت تقيؤ لفت انتباه الجميع .. و قال العم طاهر :" من هذا ؟! "
سارعت سميرة بفتح الباب و اقتربت من حُسين الذي بدت على وجهه ملامح الإرهاق بعد أن تقيأ على الفراش .. وضعت الصينية جانباً و شمرت عن ذراعيها قائلة بقلق :" هل أنت بخير ؟! "
لم يرد بل رمى برأسه على الوسادة و أغمض عينيه ..هنا دخل العم طاهر و قال :" ماذا جرى ؟ "
فتح حُسين عينيه فكانت أمامه صورة مضبضبة غير واضحة من فرط ارهاقه .. لكنه شعر بتواجد الجميع .. حيث قالت صباح :" المسكين ! "
و قالت سُهى و هي تقترب :" إن هذا الشاب منذ أن أتى للمنزل يبدو في حالة سيئة "
كان حبيب يقف يتأمل ابن خالته بأسى .. بينما أزاحت سميرة الغطاء الملوث و حملته إلى سلة الغسيل .. اقترب العم طاهر من حُسين و قال مخاطباً سميرة التي أسرعت بإخراج غطاء نظيف من الخزانة .. :
" منذ متى و هو على هذا الحال؟ "
و وضع كفه على جبين حُسين الملتهب بالحرارة .. و أتمم :" أنه في حال لا يُسكت عنها يا سميرة ! "
تنهدت سميرة و هي تفرش الغطاء الجديد على جسد حُسين و تربت على كتفه قائلة :
" سوف أستدعي الطبيب عصر هذا اليوم "
قال حبيب على الفور :" و لماذا العصر ؟!! لماذا ليس الآن .. الرجل في حالة سيئة "
هنا دخل السيد عبد الوهاب بهيبته لما رأى التجمع و قال :" هل من خطب ؟ "
تنهد حبيب و خرج قائلاً :" سأذهب لاستدعاء الطبيب "
و خرج حبيب فقالت سميرة تخاطب الجميع :" هلاَ خرجتم لأنه يحتاج للراحة"
خرجت صباح و سُهى و تأمل عبد الوهاب سميرة و هي تباشر بعملها في تمريض حُسين .. ثم غادر مع العم طاهر .. و راحت سميرة تبحث عن منديل قماشي راحت تغمره في الماء ثم عصرته جيداً .. و وضعته على جبين حُسين الذي بالكاد يتنفس .. فتح عينيه ببطء و قد ميّز رائحة عطرها البسيطة .. نهضت هي و قالت بصوتٍ يشبه الهمس :" أستاذ حُسين ، إذ احتجت أية مساعدة سأكون قريبة جداً و سأتفقدك من حين لآخر .. و قريباً سيأتي الطبيب .."
--
عـاد حبيب فطلت عليه سميرة و هي تغسل الملابس :" أين الطبيب يا حبيب ؟! "
زفر الآخر :" أنه مشغول بمرضاه و أخبرني أنه ما إن ينتهي سوف يأتي و أعطيته عنوان المنزل "
و نظر بعينيه لغرفة حُسين و قرر أن يذهب للاطمئنان عليه .. طرق الباب بلطف .. و فتحه .. اقترب قليلاً قليلاً .. و هو يرى حُسين يرمقه بعينين زائغتين .. و قد اختفى لون شفتيه ..
وقف حبيب يرمق ابن خالته و يتذكر أيام الطفولة البريئة و المشاكسات .. قبل أن تقع الفاجعة .. التي شتتت الجميع .. بينما كان حُسين يتأمل حبيب و بداخله حقد دفين تراكم على مر السنين ..
الجزء الخامس
جلس حبيب على مقربة و مسح على شعر حُسين الرطب و همس :"هل أنت بخير "
تأمله حُسين بعينين متعبتين ثم أشاح بوجهه هامساً بصوت مبحوح :" أغرب عن وجهي "
تنهد حبيب و همس :" يا ابن خالتي ، ألم تنسى ؟! "
عض الآخر على شفتيه ثم همس :" و كيف أنسى قذارتك ؟"
شعر حبيب بطعنات مريرة بصدره ثم قال بألم :" كانت مجرد غلطة مراهقة و ما أكثر أخطاءنا في هذه المرحلة .. يشوبها الجنون و فقدان العقل .. "
صمت الآخر بنفور فقال حبيب مبتسماً :" لكم اشتقت إليك .. بعد أن تشتتت الأسرة .. "
و ابتسم و هو يربت على كتفه :" حُسين .. تغيرت كثيراً .. "
لازال يشيح وجهه و أغمض عينيه قائلاً :" هلاّ خرجت ؟! أريد أن أنام "
تنهد حبيب و قبّل رأس ابن خالته و قال بهمس :" سامحني ، و اللهِ أني نادم "
--
و غادر حبيب و هو يشعر بصعوبة التقرب من حُسين ابن خالته ..بينما كان حُسين يشعر بالكره و المقت العميق ناحية حبيب ..
سُهى جلست تراقب سميرة التي تغسل الملابس على يديها ثم قالت :" رباه .."
نظرت لها سميرة و زفرت :" إلى الآن لا تريدين العودة لأبيك .. سيموت حزناً و أساً عليكِ "
نظرت لها سُهى ثم قالت بحقد :" كان السبب فيما جرى لي .. فماذا استفاد بعد أن كرهني طلال ؟"
هزّت سميرة رأسها بأسى و همست :" أنتِ المخطئة .. و أبوكِ مخطئ أيضاً لأنه دللك كثيراً .. لولا النقود التي يرسلها لكِ لكنتِ الآن في خبر كان "
حاولت سُهى تغيير الموضوع :" ما اسمه المستأجر الجديد ؟! "
قالت سميرة فوراً :" السيد عبد الوهاب .."
" لا أقصد ذلك العجوز ، أقصد الشاب المريض "
نظرت لها سميرة لبرهة و هي تفرك الملابس بالصابون ثم قالت :" تقصدين الأستاذ حُسين ؟! "
قالت سُهى :" هل أتى الطبيب ؟! الشاب في حالٍ متردية كم آلمني حاله "
ابتسمت سميرة :" لا تقلقي بعد قليل سيأتي الطبيب "
نهضت سُهى قائلة :" أيمكنني الاطمئنان عليه ؟! "
نظرت لها سميرة باستغراب فجائهما صوت صباح المُقبلة :" سُهى الأفضل أن تذهبي لمراجعة دروسكِ .."
زفرت سُهى و خرجت من المطبخ مستاءة .. فجلست صباح قائلة بهمس :
" إن هذه الفتاة مجنونة و يجب أن أربيها "
عقدت سميرة حاجبيها قائلة :" لمَ ؟! "
تنهدت صباح و قالت :" كونها حاربت أهلها لأجل عشيق .. تخلى عنها فيما بعد .. فإن مشاعرها لازالت غير مستقرة .. تريد أن تعيش قصة جديدة بأسرع وقت .. و ذلك سيؤذي مشاعرها مجدداً .. فصارت تسأل عن حبيب .. ثم سألت عن حُسين .. و ربما تسأل في الغد عن عبد الوهاب "
ضحكت سميرة قائلة :" دعيها تعيش مراهقتها "
هنا جاء صوت العم طاهر :" سميرة .. السيد عبد الوهاب يريدكِ "
غسلت سميرة يديها عن الصابون و نهضت مبتسمة لصباح :" عن إذنكِ "
مشت مسرعة ناحية غرفة السيد عبد الوهاب .. طرقت الباب فجاءها صوته المفخم :" تفضلي يا سميرة "
فتحت الباب بهدوء و جلست على مقربة من المكتب الذي يعمل عليه السيد عبد الوهاب و هو يراجع بعض الأوراق .. أزاح النظارة الطبية عن عينيه و خاطبها قائلاً :
" سميرة ..هل يمكنني إضافة بعض المتطلبات مقابل زيادة الأجر لكِ "
ابتسمت :" بالطبع ، ما هي المتطلبات "
قال بجمود :" أولاً .. عدم طرق الباب علي من قبل أي أحدٍ غيركِ أنتِ و العم طاهر .. لا أريد تدخل تلك المرأة المتطفلة صباح و لا مضايقات ذلك الرجل ذو البثور السوداء في وجهه "
رفعت سميرة حاجبيها قائلة :" تقصد حبيب ؟! هل أزعجك ؟"
تنهد عبد الوهاب و هو يدخن بهدوء :" يتظاهر أنه يسأل عن الحال و الأحوال و لا أحب هذه الحركات أبداً .."
زفرت سميرة قائلة :" و ثانياً ؟!"
عبث بأوراقه قائلاً :" أريد تناول وجباتي هنا .. في الغرفة .. كما أريد أن يتم غسل ملابسي بشكل منفصل عن ملابس الآخرين "

صابر المسالم 15 - 09 - 2010 19:47

رد: صوت الموت
 
قال ذلك و هو مشمئز .. ذلك ما بث الضيق داخل سميرة و قالت :" حسناً و ثالثاً ؟! "
" الساعة الواحدة صباحاً يبدأ عملي بتنسيق بعض الأوراق و أكون محتاجاً لأحد ما يعينني في ذلك فأتمنى لو ...."
قاطعته قائلة :" أنا أنام الساعة العاشرة مساءاً و ليس من مهمتي تنسيق أوراقكِ يا سيد "
تنهد و قال:" و رابعاً أريدك أن تعتني بأطفالي الذين سيصلون الليلة "
رفعت حاجبيها قائلة :" أأنت متزوج سيد عبد الوهاب ؟!"
ابتسم :" تزوجت و انفصلت .. و لدي ولدين ..أتمنى أن تعتني بهما "
تنهدت قائلة :" كل شيء أنا موافقة عليه عدا عن تنسيق الأوراق و أتمنى أن تتقبل عذري "
و خرجت من الغرفة مستاءة من تغطرس هذا الرجل ..لكنها عادت تعترف أمام نفسها أنه لازال محترماً في معاملتها ..
--
دخل الطبيب برفقة العم طاهر الذي دله على الغرفة فلحق بهما حبيب .. لم يخفِ حبيب قلقه على حُسين .. فحالته تسوء أكثر فأكثر ..
وقف الطبيب يتأمل حُسين المرهق تماماً .. و باشر بفحصه ثم غرس حقنة تحوي سائلاً معيناً في يده ..و حبيب يحول أنظاره بين وجه الطبيب و وجه حُسين الشاحب ..حتى قال معبراً عن خوفه :
" هل هو بخير دكتور؟! "
ابتسم الطبيب و هو يدلك مكان وغز الحقنة قائلاً :" بخير ، هذه الحقنة هي منوم ليأخذ راحته .. و سوف أكتب له أدوية يجب عليه تناولها و إلا فإن حالته ستزداد سوءاً .. "
تأمل العم طاهر حُسين الذي بالكاد يفتح عينيه و قال :" هل سيتعافى بفعل الأدوية يا دكتور "
أجاب الطبيب بثقة :" بالطبع .. فقط يجب أن تتركوه يرتاح طيلة فترة المُخدر و بعدها يجب أن يتناول الأدوية مباشرة "
حوّل حُسين نظراته الذابلة ناحية حبيب الذي ابتسم له مشجعاً .. و راح الطبيب يكتب أسماء الأدوية في ورقة ما أعطاها للعم طاهر .. ثم استدار لحُسين و عبث بشعره قائلاً :
" بإذن الله ستتعافى "
خرج الطبيب فلحق به حبيب مسرعاً .. و عند خروجهما سأله مباشرة عن تكلفة أجرته .. ذلك ما جعل سميرة تتوقف عن الكنس و هي تتأمل حبيب مندهشة و هو يدفع التكلفة بنفسه ..
خرج الطبيب فأقبل حبيب ناحية سميرة و سلمها أسماء الأدوية قائلاً :" سميـرة قومي بشراء الأدوية بأسرع وقت .. "
و أخرج محفظته مجدداً و قدم لها أوراق نقدية قائلاً :" و هذه النقود و الزائد منها اشتري منه ما ينقصكِ في المنزل "
نظرت له مبتسمة بانبهار من كرمه و نبل أخلاقه .. و كانت تفكر ..(( يا ترى لماذا يعادي حُسين حبيب و حبيب يسعى لإرضائه ؟ كنت أظن أن حبيب هو المُخطئ و لكن يبدو أن شخصية حُسين تميل إلى إثارة الحقد و البغضاء ..بينما كنت أجهل حقيقة شخصية حبيب ..رباه! كيف ظلمته كل هذه المُدة ؟))
--
بالكاد يفتح حُسين عينيه ليرى حبيب يقف يتأمله طويلاً .. أغمض عينيه على الفور انزعاجاً .. فتنهد حبيب بينما كانت سميرة تقف قرب الباب تستمع لحوارهما ..
قال حبيب :" هل تريدني أن أساعدك على تبديل ملابسك قبل أن تنام ؟! "
لم يرد فعض حبيب شفتيه قهراً منه .. و قال في نفسه :" يا لقساوتك !! يا لطبعك الحاد و معاملتك الجافة ؟ لم تكن هكذا في الماضي يا حُسين "
مسح حبيب على غرة حُسين برفق و قال :" أخبرني ما الذي تحتاجه ؟ و سوف ......"
زفر حُسين بضيق و أشاح بوجهه قائلاً بحدة :" لم أعد أطيق رؤية وجهك .. هلاَ تركتني ؟ "
صُعقت سميرة من رد حُسين الغير متوقع بالنسبة لها و القاسي .. بينما استغربت حنان حبيب و لطفه :
" لا بأس ، كما تشاء .. "
ظلّت تفكر سميرة وهي تعد طعام الغداء ..( يال لطف حبيب! لم أكن متصورة أنه رائع هكذا ! كم ظلمته بأفكاري و ظننته مجرد شخص لا يتقن إلا التحرش بالفتيات و مغازلتهن .. كريم و نبيل و حنون و متعاون .. تصرف بانسانية مع مرض حُسين ... كذلك استغربت تصرف حُسين ! ربما كان يهلوس أو أعياه المرض و لكني لم أتعرف جيداً على هذا الشخص .. )
هنا رأت حبيب يُقبل و هي تنتهي من صنع العصير لتضعه في وسط المائدة ..ابتسم حبيب و غمز لها :
" ياه ! ما هذه الرائحة.. ما ألذ طبخك يا سميرة "
هذه المرة ابتسمت له بصدق و استلطفت مدحه لها و قالت :" المرأة الممتازة هي التي تتقن إدارة منزلها "
ابتسم و جلس قائلاً :" أنتِ أدرتِ المنزل و أدرتِ القلوب أيضاً "
شعرت بحرجٍ كبير و شغلت نفسها بصف الأطباق بينما كان يرمقها مبتسماً .. و كان يخاطب نفسه :
" ما أجمل هذه المرأة ! أنها عفوية و رائعة ..و امتلكت قلبي "
هنا أقبلت سهى و جلست قائلة :" ما حال حُسين ؟! "
أجابها حبيب :" بخير، لقد أعطاه الطبيب مخدر ليرتاح .. و ستقوم سميرة بشراء الأدوية له "
حينها تذكرت سميرة السيد عبد الوهاب و سارعت برفع الأطباق الخاصة به و وضعها في صينية منفصلة فخاطبها العم طاهر و هو يجلس على أحد المقاعد :
" لمن هذه الأطباق ؟! "
تنهدت سميرة :" للسيد عبد الوهاب ، فضل أن يتناول وجباته وحده "
صاحت صباح باستنكار و هي مُقبلة :" ماذا ؟!!! و هل نحن دون المستوى ؟!"
ابتسم حبيب و قال :" هذا الرجل مصاب بالغرور "
و قال العم طاهر :" يحق له .. أنه تاجر ناجح و من حقه أن يشعر بالعلو "
ضحكت سُهى ساخرة :" غرور على ماذا فلينظر لوجهه المجعد في المرآة "
ضحكت سميرة و هي تحمل الصينية .. و اتجهت نحو غرفة ذلك الرجل ..
طرقت الباب بهدوء فأتاها صوته :" تفضلي "
فتحت الباب ببطء و اقتربت منه حيث كان يجلس أمام المكتب كالعادة و يراجع بعض الأوراق .. وضعت الصينية على مقربة فالتفتت لها مبتسماً :" أشكركِ يا سميرة .. "
ابتسمت و غادرت ..
--
حل الليل ..و وضعت سميرة الأدوية التي اشترتها على المنضدة المجاورة لسرير حُسين .. نظرت له حيث كان غاط في النوم تحت تأثير المُخدر ..و خرجت من الغرفة حيث دخل السيد عبد الوهاب برفقة ابنيه إلى داخل الردهة .. وقفت سميرة تتأمله ثم اقتربت و هي تبتسم للطفلين :" مرحباً "
ابتسم لها السيد عبد الوهاب قائلاً :" أهلاً "
قالت سميرة مستغربة :"للأسف فإن باقي الغرف ليست جاهزة .. لماذا لا تدعهما يشاركانك غرفتك ؟"
زفر و قال :" لا أحتمل أن يشاركني أحد غرفتي خصوصاً الأطفال "
استغربت سميرة و كانت تقول بينها و بين نفسها :" حتى لو كانوا أبنائك ؟!"
قالت مبتسمة :" لا بأس سأدعهما ينامان معي في غرفتي "
و مسحت بكفها الناعمة على رأس أحد الطفلين .. فابتسم السيد عبد الوهاب :" أشكر لك لطفكِ و سوف تكون أجرتهما منفصلة "
و سرح بعينيه في ابتسامتها ..
--
خلد الطفلين إلى النوم و ظلت سميرة على سريرها تفكر طويلاً في السيد عبد الوهاب .. لماذا لم يستلطفه الجميع و لم يحبه بالرغم من أنه يتصرف بشكل عادي عدا عن تحفظه في بعض الأمور .. انتبهت سميرة على صوت صراخ مفجع .. !!!! و فكرت ما الذي جرى ؟!!
الجزء السادس
نهضت سميرة من فورها و هي تسمع صراخ قوي ..و خرجت دون أن ترتدي الحجاب .. و كان شعرها طويلاً ناعماً كثيفاً .. اتجهت فوراً لمصدر الصوت و كانت غرفة صباح ..و تجاهلت حبيب الذي خرج من غرفته و وقف يتأملها مطولاً ..
فتحت باب غرفة صباح فوراً ..و اقتربت منها و هي تتوجع و تضغط على بطنها و حبات العرق تملأ جبينها ..صرخت بها :
" صباح ؟ هل ستلدين ؟! "
صرخت الأخرى :" نعم .. أشعر بأني سألد الآن الآن يا سميرة .. "
ارتبكت سميرة و سارعت بجلب عباءة صباح و حجابها.. و خرجت مسرعة من الغرفة و هي تصرخ بحبيب الذي يقف حائراً :" حبيب جهز نفسك لتوصلنا للمشفى "
رمقها مطولاً و همس :" لكني لا أملك سيارة أنسيتي يا سميرة "
ضربت سميرة جبينها هامسة :" أوه نسيت .. "
ثم قالت :" استعمل سيارة السيد عبد الوهاب أو حُسين .. تصرف يا حبيب "
و نست أنها تقف دون الحجاب .. فأسرعت لداخل الغرفة تساعد صباح على ارتداء العباءة .. بينما استيقظت سُهى من نومها منزعجة من ذلك الصُراخ .. و فزع الطفلين من النوم أيضاً ..
اتجه حبيب نحو غرفة السيد عبد الوهاب و طرق الباب بشكل متكرر و قوي.. فزع عبد الوهاب من نومه و نهض مرتاعاً .. قد ظن أن مكروهاً أصاب ابنيه .. فتح الباب و وقف متسمراً ..يتأمل ملامح القلق على وجه حبيب .. قال عبد الوهاب :
" ما الذي جرى ؟! "
تنهد حبيب و قال :" نحتاج سيارتك .. السيدة صباح ستلد و يجب أن أوصلها للمشفى "
زفر عبد الوهاب براحة ثم قال بحدة :" و لماذا تطرق الباب بقوة ؟! .. للأسف سيارتي لن تستطيع سياقتها لاسلوبها المتطور "
و صفع الباب في وجه حبيب باسلوب وقح ..فوقف الآخر مشتعلاً بغيظه و صرخ :
" أيها ....."
و حاول أن يكتم غيظه و هو يتجه لغرفة حُسين .. دخلها و وقف لبرهة يتأمل الهدوء المسيطر على الغرفة و وضع حُسين الذي لم يتغير .. أسرع حبيب بالتفتيش في الأدراج عن مفتاح السيارة و صوت سميرة يأتيه فيربكه أكثر :
" حبيب .. حبيب "
أخيراً وجد المفتاح في جيب المعطف .. أخذه و سارع بالخروج من الغرفة ليرى السيدة صباح بالكاد تستطيع الوقوف متكأة على كتف سميرة ..
--
انطلق بالسيارة يتخطى الطرقات بسرعة لا تصدق ..و صباح تجلس في المقعد الخلفي و تصرخ بكل ما أوتي لها من قوة .. هي أرملة فقدت زوجها .. و لأنها وحيدة في هذه المدينة فإنها تعيش في غرفة ايجار ..
راحت سميرة تربت على كتفها و تطمئنها .. حتى وصلوا للمشفى ..
--
على مقاعد الانتظار ، كانت تجلس سميرة عاقدة ذراعيها أمام صدرها و نست أمر الطفلين الذين تكفلت بالعناية بهما ..و كل فكرها منصب بأمر ولادة صباح ..
في الجانب الآخر كان يقف حبيب و يرمقها بين الحين و الآخر .. حتى اقترب منها هامساً :
" هل أنتِ متعبة يا سميرة ؟! "
هزّت رأسها سلبياً .. فجلس بجوارها و هو يتأملها و ابتسم :" كان منظرك لطيفاً و أنتِ تزجرين بي "
نظرت له من طرف عينها فأتمم :" أتعلميـن ؟!! "
و مد يده ليمسح بها على كفها فارتجفت و أبعدت يدها على الفور .. فقال مبتسماً :" أني .."
و قرب وجهه حيث أذنها بينما كانت ترتعد خوفاً و هو يهمس :" أني أعشقكِ "
نهضت من فورها هامسة :" احترم نفسك "
و مشت و أطرافها مرتجفة و قلبها يقرع بقوة ..فنهض مسرعاً و أمسك بكتفيها فتجمدت كلياً .. فابتسم و همس :" هل أخطأت يا سميرة ؟! أني معذور بعشق جوهرة نادرة و ثمينة مثلك "
و أدار بها لتواجهه وجهاً لوجه و هي تفتح عينيها ذهولاً لجرأته .. قال منفعلاً :
" أعشقك .. أحبك .. أهواكِ .. كم أنا متيم بك .. أني ...."
فوجئ بها تهمس بعصبية :" اخرس .. "
و دفعته بكلتا يديها بتوتر و ابتعدت ..
عند الساعة الرابعة صباحاً تعود سميرة و حبيب .. و قد تركا صباح في المشفى تعاني آلام الولادة .. نفرت سميرة من حبيب و جرأته و لكن .. عندما استلقت على السرير و فكرت مجدداً .. وجدت نفسها تميل له قليلا.. فلم يفعل ذلك إلا من حب صادق و إعجاب حقيقي .. حاول التمهيد له ..
--
استيقظت سميرة صباح اليوم التالي بنشاط كعادتها .. أيقظت الطفلين لمدارسهما و ساعدتهما على إرتداء ملابسهما .. وضعت الفطور على المائدة و راحت توقظ الجميع .. حتى وصلت لغرفة السيد عبد الوهاب .. طرقت الباب و هي تحمل فطوراً خاص به فأجابها :" تفضلي "
فتحت الباب و على وجهها ابتسامة لطيفة و هي تراه يجلس على سريره بخمول .. وضعت الصينية على المنضدة و قالت :" صباح الخير سيد عبد الوهاب "
ابتسم هو :" صباح النور يا سميرة .. ما هو حال تلك المرأة الحامل ؟"
ابتسمت سميرة :" لقد نقلناها البارحة للمشفى و تركانها إلى أن تلد و سأتصل بعد قليل لأسألهم عنها "
هزّ رأسه قائلاً :" جيد ! و اعذروني لأني لم أقدم سيارتي لأنها جديدة و مرتفعة الثمن و اسلوبها متطور على حبيب "
قال ذلك بشيء من التفاخر و الغرور مما جعل سميرة تغضب .. هزّت رأسها قائلة :" لا بأس "
و خرجت من الغرفة فوراً ناحية غرفة حبيب ..طرقت الباب فوجدت الباب ينفتح و يظهر حبيب و ابتسامته العريضة ، و كأنه ينتظر طرقها على الباب ..
همس :" أحلى صباح على أحلى سميرة "
فتحت عينيها مستغربة و همست :" ننتظرك على الفطور "
و مشت مسرعة ناحية غرفة حُسين لتتفقده إذ كان استيقظ من المُخدر أم لا .. فتحت الباب من دون طرق و كانت متوقعة أن ترى حُسين نائم .. إثر المُخدر ..و لكنها رأته يخرج من الحمام و هو يجفف شعره بالفوطة مرتدياً الروب ..
شعرت بالحرج عندما نظر لها فكيف دخلت من دون إذن .. حاولت أن تخفي حرجها و هي تبتسم بسعادة :
" أستاذ حُسين ؟!!!! هل تعافيت ؟!!!! "
ابتسم بالكاد و جلس على السرير و هو يهز رأسه :" على ما يبدو .. و لكن السعال و الزكام .... "
قاطعته سميرة و هي تقترب مبتسمة :" السُعال و الزُكام يعالجهما الدواء .. "
و حملت مجموعة الأدوية الموضوعة على المنضدة و اتجهت ناحيته قائلة :" عليك تناول هذه الأدوية حسب توقيتها .. و الآن يجب أن تتناول هذه الأقراص "
ابتسم لها ابتسامة هادئة و قال بصوتٍ مبحوح :" حسناً "
" بعد أن تتناول الأقراص ، يجب أن تأتي للمطبخ لتناول الفطور .. نحن ننتظرك"
--
جلست سميرة حول مائدة الطعام مع الجميع .. ففوجئت بحبيب يقول بنفور :" اسمعي يا سميرة ! .."
رفعت رأسها ناحية حبيب و سُهى تراقب الوضع .. فقال متمماً :" في المرة القادمة دعي السيد عبد الوهاب يتناول طعامه معنا فلا شيء يمنع ذلك أفهمتِ ؟!! "
رفعت سميرة حاجبيها بدهشة و انفجرت سهى ضحكاً .. مما أثار غضب حبيب أكثر بينما كان العم طاهر يبتسم بصمت ..
" سميرة !!! لن أقبل بإهانات ذلك المغرور الغير مباشرة بعد الآن .."
تنهدت سميرة و انتبهت على تواجد أبناء السيد عبد الوهاب .. و تركيزهما القوي على مجرى الحديث .. حينها جاؤهما صوت حُسين الهادئ و هو يُقبل مرتدياً ملابس قطنية خاصة بالنوم .. و يبدو أنه لن يذهب للعمل اليوم أيضاً ..
" صباح الخير "
التفت له الجميع و ابتسمت سُهى بخجل و هي تعبث بشعرها و رد العم طاهر بحماس :" صباح النور يا وسيم "
ابتسم حُسين و نهض حبيب من مقعده و حضن حُسين بقوة الذي تلاشت ابتسامته .. لاحظت سميرة ملامح الضيق على وجهه و تسائلت مجدداً .. ما هذا الشخص العدائي ؟ و لماذا لا يطيق حبيب ؟!!
صاح حبيب بحماس :" أخيراً يا حُسين ؟! حمداً لله على سلامتك "
همهم الآخر بنفور :" شكراً "
و جلس في المقهد المجاور لسُهى .. فخاطبه العم طاهر ممازحاً :" ابتسم .. ابتسم .. تشعرني بالكآبة بملامح وجهك هذه"
ابتسم حسين رغما عنه و هو يشيح بوجهه عن حبيب المهتم لأمره .. مما يزيد فضول سميرة أكثر فأكثر .. لكن الذي لفت أنظار الجميع سهى و هي تصب الحليب لحسين .. و تهمس :
" تعلم ؟ لقد نسيت ملامح وجهك .. فالفترة التي فارقتنا فيها طويلة.."
لم يكن حسين مهتما فقد كانت أنظاره مصوبة على الطفلين .. حتى قال :" من هذان؟"
ابتسمت سميرة :" أنهما ابنا السيد عبد الوهاب "
ثم استدركت قائلة :"قريبا .. سيأتي مستأجر جديد"
--
انصرف حبيب لعمله و خرجت سميرة مع العم طاهر ليصعدا سيارة أجرة توصلهما للمشفى لزيارة صباح .. و كذلك اتجه السيد عبد الوهاب لعمله بعد أن أوصل ابنيه لمدرستهما .. لم يبقى أحد في المنزل غير حُسين و سُهى ..!!!
الجزء السابع
جلس حُسين في الصالة أمام شاشة التلفاز و هو يحتسي كوب الشاي ببطء .. و بملامح جامدة يتابع الأخبار التي تصدع الرأس خصوصاً منذ الصباح الباكر .. في الناحية الأخرى سهى تتأمله و هي تتظاهر بأنها ترتب المنزل .. لم يكن من النوع الاجتماعي أبداً .. لم يفتح أي موضوع مع سهى و لم يتذكر أسمها حتى .. بينما كانت كأي مراهقة عاطفية اجتذبها حُسين الذي ربما يكبرها بعشر سنوات .. أو أكثر .. راحت تتأمل تقاسيم وجهه الباردة و شعره الرطب الذي لم يسرحه من الصباح .. راحت تتأمل البيجامة القطنية التي يرتديها .. راحت تتأمل بقية تفاصيله ..
لاحظت لون عينيه القاتم ..يدل على غموض يجذبها .. اقتربت منه و ابتسمت بجرأة :
" حسين"
نظر لها و قال :" نعم"
ابتسمت قائلة :" من طريقة حديثك خيل لي أنك من العاصمة"
نظر لها قليلا ثم عاد يرمق التلفاز قائلاً :" بالفعل أنا عشت بالعاصمة طويلاً .. "
عادت تبتسم و هي تتأمله ثم قالت ناوية بفتح أي حديث كان :" هذا المذيع انحيازي .. أليس كذلك ؟ يميل للطرف الذي يُعجبه "
من دون أن ينظر لها هزّ رأسه ايجابياً فأكملت :" لذا أنا لا أحب قنوات الأخبار أشعر بها لا تبث إلا الكآبة "
و تأملته و هو لم يعرها أدنى اهتمام فقالت :
" حٌسين سمعتهم يقولون عنك ......."
التفت لها بسرعة و هو مضطرب .. ظن أن الفاجعة القديمة التي جرت .. علم بها الجميع ! ..همس :
" ماذا يقولون ؟"
انفجرت ضاحكة و ربتت على كتفه قائلة :" ما بك؟ "
حاول أن يتظاهر بعدم الاهتمام فعاد بعينيه للشاشة و هو يبعد يدها عن كتفه بنفور .. مما جعلها تنصدم من جفافه معها ..
قالت :" سمعتهم يقولون أنك تعمل في الجهات الاستخبارية "
نظر لها بدهشة و قال :"الجهات الاستخبارية ؟ من قال هذه التخاريف ؟ "
ابتسمت و مالت بجسدها ناحيته :" صباح "
عقد حاجبيه :" من صباح هذه ؟"
عادت تضحك بصوتٍ عالٍ و هو يرمقها بملل و ضجر و عاد يتابع التلفاز ..حتى انتهت هي من ضحكها و قالت :" ألست تعيش في هذا المنزل ؟ و ألست تعلم أن صباح في المشفى الآن لتلد ؟"
نظر لها ببرود و هو أصلاً لم يتذكر تلك المرأة فكيف تصدر عليه هذه الاشاعات و هو لا يعرفها أساساً !!
" ما اسمك أنتِ؟"
فتحت سهى عينيها مندهشة و أشارت إلى نفسها :" تقصدني ؟"
قال الآخر بجفاف :" و من غيركِ هنا ؟"
ضحكت ثم قربت وجهها من وجهه و هو يرمقها بحذر .. و نظرت في عينيه بجرأة و هي تهمس بغنج :
" سُهى"
هز رأسه و نهض .. فنهضت معه قائلة بلهفة و هي ترتب فستانها القصير :" إلى أين ؟!! "
قال بهدوء :"غداً يستوجب علي العودة للعمل و على هذا يجب أن أجهز تقاريري التي من المفترض أن أسلمها منذ زمن"
فاجأته عندما أمسكت بمعصمه هامسة :" أيمكنني مساعدتكِ ؟"
نظر لها عاقداً حاجبيه .. في الوقت التي كانت سميرة تقف عند النافذة تتأملهما مندهشة !!!!!!
--
كانت سميرة قد عادت من المشفى مبكراً و شغلت نفسها بنشر الغسيل على الحبال في الحديقة .. ثم انتبهت على الحركات التي تثير الريبة بين حُسين و سُهى .. و انتهى الأمر بسهى و هي تمسك بمعصم حسين الذي تسمر يحدق بها مستغرباً ثم مضيا معاً ناحية غرفته !!!!!!!!!!!
صُعقت سميرة من ذلك و خافت أن تحدث كارثة في منزلها .. كونها تجهل شخصية حٌسين .. و كونها موقنة تماماً أن سهى مجرد مراهقة عابثة غير واعية مملوءة بالمشاعر ..
دخلت سميرة المنزل مسرعة .. عاقدة العزم على تنبيه هذين الاثنين قبل أن تقع الفاجعة ..طرقت الباب بشكل متكرر و قوي .. ففتحت لها سهى الباب و نظرت لها باستغراب :" سميرة ؟ متى عدتِ ؟ و ما بكِ ؟"
طلت سميرة على حُسين الذي وضع حاسوبه المحمول أمامه .. ثم نظرت لسُهى و قالت بهمس :
" سأحادثك لدقائق .. تعالي "
و سحبتها من يدها ناحية المطبخ ..
--
أقفلت الباب مرتين .. ثم نظرت لسهى و همست بغضب :" ماذا كنتِ تفعلين في غرفة الشاب يا سُهى ؟"
عقدت سهى حاجبيها ..و قالت :" كنت سأساعده في عمله "
عضت سميرة شفتيها بقوة و قالت بحدة :" اسمعيني جيداً .. غرف الرجال لا تدخليها أفهمتِ ؟!!!! "
نظر لها سهى رافعة أحد حاجبيها و قالت :" و لماذا أنت تدخلين كل يوم و في كل وقت أيضاً ؟ "
احتارت سميرة ماذا ترد ثم قالت بانزعاج :" أنا مسؤولة المنزل و يجب علي الاعتناء بهم كربة منزل لا اكثر .."
نظرت لها سهى باحتقار ثم قالت :" و أنا أيضاً دخلت غرفة حسين للاعتناء به و مساعدته لا أكثر و لا أقل "
حارت سميرة كيف لها أن تقنع سهى و ربما كانت سهى محقة بعض الشيء فما الذي يدفع سميرة للتدخل في شؤون حياة مستأجريها لهذا الحد .. و هل كل امرأة في موقعها ستفعل ما تفعله ؟!!!
--
عاد الجميع من أعمالهم من ضمنهم كان عبد الوهاب الذي مضى لغرفته بتكبر و هو يخاطب سميرة :
" سميرة ! اجلبي لي طعام الغداء "
وقف حبيب يتأمل عبد الوهاب بغضب ثم قال :" هيه أنت "
استدار له عبد الوهاب و قال :" تقصدني ؟؟"
أردف حبيب بحدة :" الوجبات ستتناولها معنا و سميرة ليست خادمتك "
نظر عبد الوهاب لسميرة و همس :" هل أنت منزعجة يا سميرة ؟"
قبل أن تنطق سميرة زمجر حبيب بعصبية :" نعم ! منزعجة و شكت لي تصرفاتك .. أمامك خيارين ! إما أن تتصرف باحترام فنحترمك أو تختار لك منزل آخر يستقبلك "
فتحت سميرة عينيها بدهشة و عبد الوهاب متسمر .. بينما وقف حُسين على باب غرفته يتأمل الموقف بصمت .. و سُهى تبتسم بتشفي أما العم طاهر فكان يدعو ربه أن لا يكون هذا سبباً لمغادرة عبد الوهاب المنزل ..
كان رد عبد الوهاب غير متوقع فقد هز رأسه بتقبل و رضوخ و قال :" لا بأس"
--
حول المائدة تبتسم سميرة قائلة للجميع :" أبشركم صباح أنجبت صبياً و احتارت ماذا تسميه .. أنا اقترحت أن تسميه محمداً .. فليس هناك أخير من اسم خير البشر "
ارتفع صوت العم طاهر بالصلاة على الرسول و تبعه البقية بخشوع .. ثم قال العم طاهر :
" صدقتِ يا ابنتي .. فإن تسمية أول مولود باسم محمد يجلب البركات و الخيرات .. أنا أؤيدكِ "
ابتسم حبيب قائلاً :" و لكن تبقى الناس تحب تسمية أول أبناؤها باسم مميز .. ما رأيكم بشادي ؟ "
صاحت سُهى :" يا للذوق البشع يا حبيب .. اسمك بشع و ذوقك بشع رباه !!! "
ضحك الجميع و تقبل حبيب ذلك بابتسامة مرحة حتى أكملت سٌهى :" أعتقد لو أسمته ريان سيكون مميزاً للغاية"
قهقه السيد عبد الوهاب و قال بصوته الجهوري :" ريّان؟!!! أهو اسم صبي أم بنت ؟؟"
ابتسم حُسين أخيراً و أتمم السيد عبد الوهاب و هو يربت على كتف ابنه :" أني أعشق اسم ابني و بكري .. خالد .. اسم راقي و جميل لطالما استلذيت نطقه"
ابتسمت سميرة :" بالفعل ! اسمه يعجبني "
و هزّ العم طاهر رأسه مؤيداً .. بينما عبس حبيب لغيرة منه .. و قال حٌسين بصوته الهادئ .. :
" كذلك اسم عادل جميل .. "
ابتسم العم طاهر :" بالفعل يا ولدي .. و تبقى الاسماء كلها جميلة .. و لكن إذا ما اخترنا من أطهر الأسماء و أشرفها .. أو من كلمات القرآن الجليلة .. سيكون للاسم معنى مبطن ملكوتي "
هدأ الجميع مبتسماً عدا عن سُهى التي عبست بنفور .. لحديث العم طاهر الذي تعتبره مجرد فذلكة و ثرثرة ..
أنهى الجميع تناول الغداء و تفرقوا .. فراحت سميرة تغسل الأواني .. فوجئت بحبيب يقف بجوارها و يقول بهمس :
"كدت أن أقول لهم .. أسموا الطفل سمير .. أغرمت بكل شيء فيك "
تأملته سميرة و أشاحت بوجهها و هي تغسل الصحون فقال بصوتٍ حاني :" ليست أيديكِ الناعمة لغسل الصحون .. أنتِ أثمن .. أنتِ أكبر .. كم أنا مغرم بكِ "
في الناحية الأخرى كان يقف حسين و قد توقف عن احتساء الشاي .. راح يرمق حبيب بنظرات نارية مخيفة .. و قلبه بدأ يدق كطبل أفريقي مجنون .. شعر أن ذلك الوحش المتخفي .. يبدأ بالاقتراب من ضحية جديدة .. و من هذه الضحية ؟ .. أنها سميـــــــرة !!!!
الجزء الثامن
حول مائدة العشاء .. جلس السيد عبد الوهاب هامساً :" هل أتى المستأجر الجديد ؟"
ضحك صباح و هي تضم طفلها و همست :" نعم ، مضحك جداً "
علقت سُهى :" هذه الموضة يا جماعة ! "
همست سميرة :" ششش "
حيث أقبل وائل ذلك الشاب بابتسامته العريضة .. و جلس بالقرب من صباح التي ضمت طفلها لصدرها و ظلت تسمي عليه باسم الله ..
هنا انتبه الجميع لدخول حبيب و حُسين .. حيتهما سميرة مبتسمة :" أهلاً .. أهلاً نعيماً "
ضحك حبيب الذي حلق شاربه و ذقنه كاملاً .. و نظر حُسين لهم بنظرة جامدة كالعادة .. لفت نظره تواجد وائل .. فابتسم العم طاهر و هو يربت على كتف وائل :
" هذا وائل .. مستأجرنا الجديد و بإذن الله أخ عزيز و صديق وفي "
و أشار لحبيب قائلاً :" و هذا حبيب ، "
ضحك حبيب فأشار العم طاهر لحُسين مبتسماً لوائل :" و هذا حُسين .. "
عقد حُسين حاجبيه و هو يتفحص هيئة وائل الذي ابتسم ابتسامة عريضة :" تشرفنا "
ابتسمت سميرة :" تفضلا لتناول العشاء "
جلس حبيب بمرح فقال حُسين مخاطباً سميرة :" لدي عمل لذا لا أريد عشاءاً "
و اتجه ناحية غرفته ..فقال السيد عبد الوهاب بهمس :" ألا ترون معي أن هذا الرجل غريب الأطوار قليلاً ؟"
رفعت سُهى عينيها و قال حبيب مباشرة :" لمَ ؟! حُسين يتصرف بشكل طبيعي و لا شيء غريب "
صمت العم طاهر و كذلك سميرة .. و قالت صباح :" أؤيدك يا عبد الوهاب .. و أشعر بغموض ناحية هذا الشاب لا أدري ما سببه .. أحياناً أشعر أنه يخبئ جثة في حقيبته"
و ضحك الجميع عدا عن حبيب الذي يشعر بالذنب ..
كان وائل يراقب الجميع صامتاً .. هنا شاهد الجميع حُسين و هو يخرج من غرفته و يمشي خارجاً من المنزل حاملاً حاسوبه الصغير ..
نهضت سُهى قائلة :" شبعت "
تأملتها سميرة جيداً و هي تخرج ناحية الحديقة ! ..
--
يجلس حُسين على المقعد البلاستيكي و هو يعمل بانهماك في الحاسوب ..
" حُسين ! "
رفع رأسه إلى سُهى و هي تقف أمامه بابتسامة خجولة .. همست :" أتسمح لي بالجلوس "
هزّ رأسه ايجابياً .. فجلست بجواره و هي تصوب عينيها ناحية شاشة الحاسوب ثم نظرت له و هو لم يعيرها أدنى اهتمام ..
ابتسمت قائلة :" تعلم .. الشخص الغريب الأطوار دائماً ما يكون جذاباً أليس كذلك ؟"
لم يجب و كان يعتبرها تثرثر فقط لتمضية الوقت بينما كان مشغولاً بعمله .. ابتسمت و هي تتأمله بينما كانت تعبث بتنورتها .. ثم همست :
" السنة الماضية لعبت أنا و صديقاتي لعبة لن أنساها مهما حييت "
قال ببرود :" ما هي ؟"
ابتسمت خجلة ثم قالت :" أن ترسم كل واحدة منا فارس أحلامها و توقعاتها له .. فرسمت أنا .. شاب يشبهك"
تسمر و عينيه معلقتان في شاشة الحاسوب ثم نظر لها لبرهة فكانت تنكس رأسها بخجل ..
حُسين شاب لانطوائه الشديد على نفسه فأنه لم يحظى بفرصة أن يعجب بفتاة أو تُعجب به .. و لم يجرب هذا الشعور قط .. لم يدري لماذا شعر بالصدق يخرج من شفتي سُهى .. بل و التمس شغفها الشديد ناحيته بنظراتها و ابتسامتها و همساتها ..
و رغماً عنــه ، ابتسم لها ..
--
و مرت الأيام ، سميرة لا تزال كفراشة مرحة في ذلك المنزل .. حبيب ينظر لها و قلبه يقول .. أنها مُلهمتي .. أنها كوني .. و لا يزال حبيب يلاحق حُسين يراضيه و يستعطفه .. بينما ذكريات حُسين لا تزال محفورة بعمق تزج له الكوابيس كل ليلة .. و لكن من ناحية أخرى فحسين يكون عاجزاً أمام دلع سُهى .. التي دفعته دفعاً للاهتمام بأمرها .. سُهى التي تهمل دراستها و صباح تصرخ بها كل يوم تأنيباً على هذا الاهمال .. بينما كان وائل يحاول التأقلم مع الجميع .. يلقى السخرية من سهى و صباح .. و يلقى الصد و التجاهل من حسين .. و يلقى الاحتقار من السيد عبد الوهاب ..و يلقى النصح و التناصح كل يوم من العم طاهر لكنه يلقى الابتسامة من حبيب و اللطف من سميرة ..
و يظل عبد الوهاب يحاول جاهداً التلميح لشيء ما لسميرة .. بينما كانت تتجاهله و تتجاهل تلميحاته .. و كان له حبيب بالمرصاد ..
--
تقف سميرة تتأمل سُهى و حُسين يمشيان في الحديقة فيزيد قلقها ..بينما كانت سُهى تفكر كيف لها أن تصرح لحسين بحبها و هي الفتاة .. من المفترض أن يكون هو الملهوف لا هي .. و فكرت بعمل حركة معينة تأسر قلبه ..
انتبهت سميرة على صوت السيد عبد الوهاب .. ابتسم لها و يقترب هامساً :" لديّ أمر أريد قوله لكِ يا سميرة"
نظرت له و دعته للجلوس قائلة :" تفضل"
جلس أمامها و همس :" هو موضوع حساس لا أعلم مدى تقبلك له .."
و زفر بقوة بينما كانت سميرة ترمقه بقلق فأتمم :
"علي الاعتراف أنك مميزة و جَذبتني منذ اللحظة الأولى التي التقيت بك فيها "
ارتجف قلبها و هي تحاول أن تحافظ على ابتسامتها حيث أكمل :" قررت قراراً راجعته مراراً و تكراراً و لكني مقتنع به "
رفعت عينيها بحذر قائلة :" ما هو ؟! "
تأملها مطولاً و همس :" أريد أن أتزوجك يا سميرة "
جاء صوت صراخ سهى قوياً شتت الجميع .. نهضت سميرة ناسية موضوع السيد عبد الوهاب و اسرعت بإزاحة الستارة لترى حُسين قد هجم على سُهى بضرب شنيع !!!!! ..
الجزء التاسع
جلست سُهى قريبة من حُسين و هي تتأمله بجرأة ثم ربتت على كتفه هامسة :" هل تريدني أن أقول شيئا حفظته بقلبي منذ أن رأيتك ؟"
نظر لها عاقداً حاجبيه و همس :" ما هو "
افترسته بنظراتها الجريئة حتى أشاح بوجهه عنها ..
همست بأذنه :" أُحبك "
ازدرد ريقه دون أن يرمقها .. فابتسمت بمكر ثم طبعت قبلة جريئة على خده ...
لم تتوقع ابداً ردة فعله .. في داخل حُسين انفجرت حمم بركانية .. هذه القُبلة أعادت له تلك الذكريات المريعة .. نظر لها بعينين حمراوتين مخيفتين و هو يتذكر حبيب الذي وزع قبلاته الممزوجة برائحة كريهة من فمه و لعاب قذر .. كان كالحيوان تماماً ..
و كذلك بدت له سُهى .. بدت له كحيوان قذر يسيل من فمه اللعاب .. جددت له آلامه و أوجاعه .. جددت له الماضي القذر بحركة وضيعة منها .. شعر بنيران تلهب أحشاءه و هو يسمع صوت الموت يقترب و يقترب.. و صوب نظراته لسُهى التي شعرت بالخطر و ابتعدت بحذر ..
لم يشعر بنفسه و هو ينهال عليها بضربٍ شنيع .. كما لو كان يفرغ غضبه من حبيب عليها ..
--
خرجت سميرة خلفها عبد الوهاب و تبعهما وائل و حبيب و البقية لايقاف جنون حُسين .. أسرع وائل و شد قميص حُسين ناحيته و صرخ :" يا مجنون ماذا تفعل ؟!! "
نظر له حُسين بنظرات مخيفة .. كان مخيفاً فعلاً تحول لأسد يريد الانقضاض على فريسته مهما يكن .. زمجر به و هو يبعد يديه :" ابتعد عن وجهي "
خافت سميرة و هي ترى حبيب يمسك بقوة بذراع حُسين و هو يصيح :" حُسين ! اهدأ .. ما بك "
بينما كانت سُهى ترتجف خوفاً بشعرها المنكوش ... والعم طاهر يقف يراقب الوضع بقلق .. خصوصاً عندما نظر حُسين لحبيب بحقد دفين .. ثم همس :" لا تلمسني يا قذر "
صاح وائل و هو يشدد القبض على قميص حُسين الذي يكاد يتمزق :" سُهى أهربي "
نظر حسين له بمقت و همس :" أتركني "
استشاط وائل غضباً و سدد قبضة يده ناحية بطن حُسين .. الذي أمسك ببطنه متوجعاً ثم رفع عينيه ناحية وائل مغتاظاً ..
ركضت سُهى مسرعة ناحية المنزل .. و اقترب العم طاهر هامساً :" حسين .. كن هادئا"
نظر له حُسين و هو يتنهد بضيق ثم زمجر :" اتركوني و حسب "
تركه حبيب ببطء و كذلك فعل وائل .. فمضى داخل المنزل و هو يقطب حاجبيه بضيق ..
--
" أنه مجنون .. كيف يضرب فتاة ؟!! "
قال وائل ذلك مستاءاً ثم أتمم :" لماذا ضربها أصلاً ؟"
تأمله العم طاهر و رفع السيد عبد الوهاب كتفيه قائلاً :" لا نعلم ! مع أنهما كانا صديقين قريبين منذ بضعة أيام "
في الجانب الآخر تستلقي سُهى على سريرها سارحة بجانبها صباح التي تلح بسؤالها :
" لماذا ضربك حُسين ؟!! ما به هذا المعتوه ؟!! "
زفرت سُهى :" أنتِ قلتها .. معتوه ! "

صابر المسالم 15 - 09 - 2010 19:50

رد: صوت الموت
 
تنهدت صباح قائلة :" مؤكد أن هنالك سبب .. أخبريني به هيا "
اعتدلت سهى و همست :" ظننته فارس أحلامي "
فتحت صباح عينيها بدهشة فأكملت سُهى ..:" كان لطيفاً في الأيام الفائتة و لكني ما إن صرحت بحبي له و .... "
و قالت بارتباك شديد :" و قبلته "
شهقت صباح مصدومة !!!!! و صاحت مستنكرة :" ماذا ؟! "
نكست الأخرى رأسها بضيق قائلة :" نعم .. قبلته .. فكنت مغرمة به و لم أتوقع أبداً ردة فعله الغريبة الهمجية هذه "
و قالت عاقدة حاجبيها :" أهناك رجل يرفض قبلة ؟! "
عضت صباح شفتيها :" قليلة أدب !!!!!! "
زفرت سُهى هامسة :" هذا ما حصل .. يا له من عنيف و مخيف و معقد "
--
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. سميرة تستلقي على سريرها تفكر فيما قاله لها السيد عبد الوهاب .. وضعت يدها فوق صدرها و هي تبتسم (( يريد الزواج بي ؟!!! ))
لكنها سرعان ما تذكرت أنه رجل تخطى الأربعين منفصل لديه ولدين ..لكنها عادت تفكر ..
و ماذا يعني لو كان تخطى الأربعين فهي أيضاً تبلغ السبعة و العشرين و في غمضة عين سترى نفسها في الثلاثين .. و الفرق تقريباً عشر سنوات فقط ..
تذكرت أنه منفصل و لديه ولدين .. و عادت تخاطب نفسها ..
(( منفصل ؟!! و هل كنت أنتظر شاب لم يتزوج أبداً ؟ و أنا بعمري هذا و بمستواي التعليمي البسيط؟ و حتى لو كان لديه ولدين .. علي ألا أظن انني مرغوبة ))
و تذكرت أنها و لطالما انزعجت من بعض تصرفاته .. و فكرت (( كان ذلك في الماضي يا سميرة و لا تنكري أنه لبق في معاملتكِ و محترم ))
حارت كثيراً و فضلت النوم ..
--
بينما طرق العم طاهر باب غرفة حُسين بهدوء شديد .. و هو يحمل القرآن الكريم .. كان حُسين قد انتهى لتوه من الاستحمام و كم كان مرهقاً و ليس مستعداً لعتاب هذا و مسائلة ذاك .. كانت نفسيته متأزمة .. قال بارهاق و هو يعقد أزرار قميص النوم القطني ..:" مـن ؟"
" أنا طاهر يا حُسين .. أأدخل ؟"
تنهد حُسين و استلقى على سريره بضيق قائلاً :" نعم "
فتح العم طاهر الباب بابتسامته الحنونة و هو يتأمل حُسين المستلقي على السرير .. جلس على مقربة و خاطبه بهمس :" ما بك ؟"
نظر حُسين للعم طاهر بنفور ثم أشاح بوجهه .. ابتسم طاهر و هو يمسح غرته الرطبة التي على جبينه بعناية شديدة ثم همس :" لمَ آذيت سُهى ؟ هذه ليست أخلاقك يا حُسين "
تنهد الآخر و قال بحدة :" عم طاهر .. أنا متعب .. أخذت حقنة المهدئ منذ قليل "
تأمله العم طاهر ثم فتح القرآن الكريم قائلاً :" ألا بذكر الله تطمئن القلوب .. سأقرأ لك بعض السور لتهدئ ... فلا مهدئات و لا حقن كافية لطمئنتك "
و بدأ العم يقرأ بعض سور القرآن بصوت رخيم تهتز له القلوب .. فارتخت ملامح حسين شيئا فشيئا و سرح بفكره بعيدا .. و عاد شريط ذكرياته التعيس يعرض نفسه .. لقطات مريعة تكاد تخمد أنفاسه حتى الموت..
توقف العم طاهر بصدمة عن تلاوة القرآن و هو يتأمل دمعة وحيدة تسيل من عين حُسين بسكون .. دمعة مثقلة بآهات الماضي و صراعات الحاضر و وحوش المستقبل ..
كم شعر العم طاهر بأن حسين يكبت مصائب مفجعة بقلبه ..فدموع الرجال نادرة ..تفتت الصخر ..
" حُسيـــن "
بالكاد التفت حُسين للعم طاهر الذي همس :" يا وَلدي لا تعذب نفسك .. أخبرني بما يحزنك .. "
تنهد حُسين و هو موقن تماماً أن بوحه لسره سوف يؤجج عذاباته فما أقسى أن ينظر لك الناس كشخص عجز عن الدفاع عن شرفه و عرضه و رجولته ..
شعر بالضيق الشديد فرفع يديه و ضغط بقوة على رأسه مغمضاً عينيه كأنه يحاول استخراج الذكريات التي سكنت رأسه منذ سنين طويلة ..
--
صباح اليوم التالي .. يجتمع الجميع على مائدة الافطار و تفتقد سميرة السيد عبد الوهاب !! كانت ستحمل له الفطور لغرفته لكـنها تراجعت.. بينما يجلس وائل بجانب حُسين و سهى تتناول فطورها منكسة راسها .. و العم طاهر يداري حسين و يمازحه و يحاول اضحاكه باهتمام بالغ أثار غضب وائل ..
قالت سميرة و هي تلاطف حُسين :" اليوم يومك يا حسين .. العم طاهر يطلب رضاك فقط "
ضحك الجميع و ابتسم حسين ابتسامة باهتة و قال حبيب و هو ينهض قائلاً :" و أنا أيضاً أطلب رضا حُسين علي فلو حصل ذلك سأكون أسعد شخص في هذه الدنيا "
كان حُسين الوحيد الذي فهم قصد حبيب الذي أقبل ناحيته و انحنى يقبل رأسه ثم قال :" رضيت يا حسين ؟"
نظر حُسين لحبيب نظرة عميقة و قال :" لا "
ضحك الجميع بعضهم يعلق و بعضهم يسخر .. بينما كان حبيب و حسين يتأملان بعضهما بنظرات عميقة للغاية ..
و وائل يشتعل غضباً .. حيث قال بغيرة واضحة :
" الجميع يطلب رضا حُسين ؟ و من يكون ؟ هل الجنة تحت أقدامه مثلا ؟"
انفجر الجميع ضحكاً و صاحت سميرة :" ربما .."
بينما كان حبيب يعض على شفتيه غضباً و هو يخاطب نفسه :" لا ؟!!! مفهوم التسامح محذوف عندك يا ابن خالتي الحقود "
الجزء الحادي عشر
يقف حُسين أمام سيارته حاملاً حقيبة عملية وضع فيها الحاسوب المحمول ..مرتدياً قميص أسود قد شمر أكمامه .. فتح سيارته الزرقاء فاستوقفه صوت حبيب ..
" حُسين "
هبت رياح شمالية حركت شعر حُسين الأسود الناعم .. لم ينظر لحبيب أبداً .. فما هذا القلب الحجري يا حسين .. وقف حبيب على مقربة و همس :" سأقترح عليك أمرا "
تنهد حُسين و همس بضيق :" قل ما لديك "
ربت حبيب على كتفه بلطف و قال بارتباك و تردد :"ما رأيك أن تقابل شخصاً .. تتكلم معه عن ما يؤرقك و يحزنك .. أقصد ما رأيك أن تقابل طبيب مختص .. "
فتح حُسين عينيه بصدمة و التفت ناحية حبيب هامساً :" أعد ما قلت "
زفر حبيب و همس :" نعم يا حسين أنت بحاجة لطبيب نفسي .. عليك أن تعيش بقية حياتك ناسياً......"
رمى حُسين بحقيبته و قبض على قميص حبيب بغضب :" اخرس ! أنت من يجب أن يعالج من أمراضه العقلية .. أنت شخص مريض عقلك ملوث و نفسك قذرة .. أنت المريض و لست أنا أفهمت ؟!! "
و حمل حقيبته صاعداً سيارته متنهداً ..
--
في الطرف الآخر كان سميرة تقف أمام النافذة تشاهد ما حدث بين حبيب و حُسين و زفرت .. ثم نظرت للعم طاهر قائلة :" يبدو أن ما قلته أنت و حبيب صحيح"
هز العم طاهر رأسه قائلاً :" نعم .. حُسين مريض نفسياً .. يجب أن نأخذه لمشفى نفسي باسرع وقت .. حتى لو اضطررنا لجبره على ذلك "
تنهدت سميرة ثم التفتت للعم طاهر قائلة بهمس :" تعلم ؟ السيد عبد الوهاب طلبني للزواج "
فتح الآخر عينيه بصدمة ثم توسعت ابتسامته قائلاً :" أحقاً ؟"
ابتسمت سميرة بخجل :"نعم .. و .. و لكني لازلت أفكر .."
--
" نعم يا حبيب .. عبد الوهاب تقدم لخطبة سميرة "
حبيب الذي عاد من عمله مرهقاً لم يتوقع أن تهبط عليه صاعقة كهذه !!!! ..نظر لسُهى بصدمة و قال :
" كاذبة "
رفعت سهى حاجبيها مندهشة و هي ترى حبيب يركض مسرعاً للمطبخ ..أغلق الباب خلفه و هو يرى سميرة تقطع البطاطا و هي تغني بمزاج عالي .. اقترب و همس :
" سميرة !! هل تقدم لخطبتكِ عبد الوهاب ؟!! "
رفعت سميرة رأسها و شتتت أنظارها بارتباك قائلة :" نعم لكني لم أرد عليه لحد الآن "
باغتها :" أرفضيه!!!"
رفعت رأسها عاقدة حاجبيها باستنكار :" أنا حرة بقراري "
اقترب و ضرب الطاولة بكلتا يديه صائحاً :" أنا أحبكِ يا سميرة !!! أنا من سيتزوجكِ و لا أحد غيري أفهمتِ؟"
نظرت له بقلق ثم همست :" لا تتدخل في شؤوني "
و دارت بينهما نظرات نارية فخرج حبيب خائباً .. كم شعر بالقهر الشديد لذا ركض مسرعاً لغرفة عبد الوهاب .. طرق الباب بقوة .. ففتح له عبد الوهاب صائحاً :" ألن تتعلم كيف تطرق الباب بأدب ؟"
لهث حبيب بغضب و همس :" عبد الوهاب .. اسمع .. سميرة محبوبتي أنا .. سمعت ؟ "
رمقه عبد الوهاب بصدمة ثم همس :" لا شك أنك جننت يا ذا الوجه المخيف "
و مضى حبيب بغيظ مع قهقهات عبد الوهاب الساخرة ..
--
طُرق باب غرفة حُسين بطرقات مرحة أشبه بقرع على الطبول .. عقد حُسين حاجبيه قائلاً :" أدخل "
فتح الباب و ظهر وائل و ابتسامة عريضة تشق وجهه .. أقفل الباب من خلفه و اقترب جالساً امام حسين مباشرة الذي كان يشغل نفسه كالعادة بالعمل على الحاسوب ..
رمقه حُسين بعدم راحة فنكس وائل رأسه قائلاً :" لقد تذكرت أني آذيتك ما قبل يوم أمس حين ضربت أنت سهى .. تذكرت أني ضربتك و لذا جئت أعتذر.. لأني لم أراعي فارق السن و أنت الذي بعمر أخي الأكبر"
تأمله حُسين قليلاً ثم عاد بناظريه لشاشة الحاسوب قائلاً :" لا داعي للاعتذار لأني نسيت الموضوع كله "
ابتسم وائل و غمز بمشاكسة :" لقد علمت بالسبب الذي جعلك تضربها "
فتح حُسين عينيه على أقصاهما ثم نظر لوائل الذي ربت على كتفه ضاحكاً :" يا لك من محظوظ "
لم يستوعب حُسين أن وائل يعلم بالامر .. لذلك همس :" تعلم عن ماذا بالضبط ؟"
أطلق وائل ضحكة عابثة و قال بمكر :" أعلم بكل شيء .. "
دق قلب حُسين و هو يتأمل وائل و هو يقترب له و يهمس باذنه :" علمت بما قامت به تلك الفتاة .. لماذا ضربتها ؟ هذا بدل أن تفعل الشيء نفسه ؟!! لكني أعلم أن ضربك لها ربما يكون تمهيد لشيء آخر"
ثارت نيران حُسين و عينيه ملتهبتان .. حمل الحاسوب المحمول و رماه ناحية وائل الذي تفاجئ.. فتفاداه بسرعة .. و انفلت الحاسوب و سقط على الأرضية الرخامية و قد تحطم كلياً ..
فتح وائل عينيه مصدوماً و هو يرى الحاسوب تحول إلى خردة بالية ثم التفت لحُسين صارخاً :" أأنت مجنون ؟!! لماذا فعلت هذا؟"
دخلت سميرة الغرفة فوراً معها حبيب و العم طاهر .. لم يكترث لهم حُسين .. كان مشتعلاً .. كان بركاناً منفجراً.. قبض على قميص وائل و زمجر :" يا عديم الشرف و الغيرة .. كيف تتجرأ "
صرخ وائل :" أليس هذا ما جرى يا شريف ؟!! أينك أنت من الشرف ؟ هل يفعل الشريف ما فعلته أنت ؟!! "
نظر حبيب مصعوقاً لحُسين الذي عض شفتيه و هو يفكر (( نعم !! لمَاذا أتكلم عن الشرف و أنا .... و أنا الذي أهدرت شرفي و ضيعته بين أيدي حبيب !! ))
صاحت سميرة :" ماذا يجري؟!!"
نظر العم طاهر بأسى لحُسين و أيقن أنه يغرق في متاهة .. في دهاليز نفسه المعقدة .. في صراعات ماضيه و حاضره و مستقبله ..
اقترب حبيب و دفع وائل بعنف و هو يصرخ :" ابتعد عن حُسين .. اعرف قدر نفسك أولاً ثم تجرأ على حُسين .. حُسين شريف و طاهر و أطهر منك و من أمثالك .. "
لم يستوعب لا وائل و لا سميرة و لا العم طاهر سبب حُب حبيب و تعلقه الشديد بحُسين و دفاعه عنه و لم يعلما أن هنالك رابطة قوية تربطهما .. رابطة الأسرة ..
استدار حبيب ناحية حُسين و كم آلمه رؤية عينين كئيبتين تحملان ماضي مفجع .. و حاضر ميت ..
"حُسين .........."
قاطعه الآخر بهمس .. بكره ، بمقت .. :" اخرس .. "
فتح حبيب عينيه بصدمة ثم قال بانفعال :" حُسين أنا مستعد أن أفديك بدمي و روحي و نفسي و بكل شيء غالٍ عندي .. "
وقفت سميرة متسمرة و هي تتأمل حُسين الذي ارتسمت على وجهه ملامح كره شديد .. لم تفهم سببه ..
قال و هو يصوب نظرات حقد عميق لحبيب :" لو كنت سأموت .. أنت آخر شخص سأقبل إنقاذه لي "
وقف الجميع مصدوم !!! مما يقوله حُسين .. ذلك الشاب الذي لم يعذر له أحد تصرفاته عدا عن حبيب ..
وقفت سميرة مستنكرة و هزّ العم طاهر رأسه بأسى و صوب وائل نظرات نارية لحُسين الذي وقف يلهث بضيق و حبات العرق تبلل شعره و جبينه ..
هنا جاء صوت السيد عبد الوهاب هامساً :" يا جماعة دعوني أتكلم معه قليلاً "
ابتعدت سميرة و العم طاهر عن عبد الوهاب الذي كان واقفاً يتأمل الوضع دون أن ينتبه له أحد .. اقترب عبد الوهاب و ملامح حُسين لا تشجع أبداً على مناصحته ..
صاح وائل مشتاطاً :" أي كلام يا سيد عبد الوهاب .. هذا شخص يتصرف بحيوانية مع الناس .. لم أرى شخصاً معقداً و متزمتاً مثله من قبل .. "
صرخ حبيب :" اخرس .. "
فعاد يصرخ وائل :" و لماذا تدافع عنه و هو في النهاية يسيء إليك و يهزئك ! هل يستحق منك أن تدافع عنه "
فوجئ الجميع بحسين و هو يرفع حقيبة ملابسه على السرير و يبدأ بلملمة حاجياته ليضعها فيها !!
اقترب عبد الوهاب و أمسك معصمه و قال بحدة :" توقف ! .. لا تتصرف هكذا .. قل لنا ما بك "
و صاحت سميرة :" حُسين .. أعدك ألا نتدخل في شؤونك و لكن لا تغادرنا "
تأمل عبد الوهاب حُسين بعمق ثم همس :" أفصح عن ما يدور بذهنك .. ما بك يا حُسين .. من يزعجك ؟ من يؤذيك؟ قل .. كلنا سنقف معك "
سافر حُسين بعينيه ناحية حبيب و كتم انفجارات مدوية بداخله ثم همس :" حسناً .. هل لكم أن تتركوني "
تنهد عبد الوهاب و استدار للجميع :" فلنخرج ليرتاح "
و خرج الجميع عدا سميرة التي اغلقت الباب و هي ترى حُسين يرمي بجسده على السرير ..و يغوص بوجهه في الوسادة بألم .. كم شعرت بالشفقة ناحيته و شعرت بأنه و فعلاً .. يتعذب ..
اقتربت سميرة و حملت الحاسوب المحطم و وضعته على المنضدة .. ثم جلست بجوار حسين و تاهت في عينيه الحزينتين.. تنهدت ثم همست :
" هل لك أن تخبرني ما بك ؟ سوف اعتبره سراً لن أبوح له مهما عشت .. و يمكنني أن أقسم على ذلك .."
نظر لها بعينين يتضح فيهما البحر الميت ..
الجزء الثاني عشر
زفرت ثم عادت تهمس :" لا تعذب نفسك أرجوك ..لم أعتد أن أرى شخصاً يتعذب بمرارة و لا أستطيع مساعدته .. بربك أخبرني ما بك "
و بالرغم منها سالت دمعتين من عينيها الفيروزتين مسحتهما بسرعة و قد تحشرج صوتها و هي تقول :
" قل لي .. ماذا فعل حبيب ؟! "
هنا ارتعش قلب حُسين و هو يسمعها تقول :" لماذا تعامله هكذا مع أنه يحبك و يعتني بك .. لماذا تعامل الجميع بهذا الاسلوب .. أشعر أن قلبك أبيض تماماً و لكن ما الذي جرى ؟"
زفر حُسين و هو يهمس :" أأطلب منك طلب ؟! "
قالت بسرعة :" أطلب ما تشاء "
نظر لها قائلاً بنظرات حادة ألهبت كيانها .. همس :
" حبيب "
قالت مسرعة :" ما به "
قال بتصميم :" احذري منه"
رمقته متسمرة و همست :" لماذا ؟!! "
أبعد عينيه باتجاه آخر بصمت ..
فتأملته طويلاً ثم قالت :" هل تعرفه من قبل ؟! "
أغمض عينيه و لم يجب .. فنهضت قائلة بإرادة :" أعدك .. أني سأتحذر من هذا الشخص .."
--
طلع الصُبح .. حيث نهضت سميرة من فراشها و ارتدت معطفاً صوفياً يقيها من البرد الذي يتضاعف مع الايام .. خرجت من غرفتها و اتجهت ناحية غرفة عبد الوهاب .. طرقت الباب .. فأجابها :
" تفضلي يا سميرة "
تنهدت و فتحت الباب بهدوء و اقتربت منه حيث كان يجلس أمام المكتبة .. استدار لها مبتسماً و همس :
" ما هو قرارك الآن يا سميرة "
تنهدت ثم تأملته مطولاً حتى قالت :" سألتني ذات مرة عن رأيي في الخاطب الذي سيمنعني عن عملي .. فهل ستمنعني عن عملي ؟"
قال و هو ينفث دخان سيجارته :" بالتأكيد "
تسمرت مصدومة ! فلما رأى ملامحها قد تغيرت .. نهض و قال بنبرة حنونة :" لن أمنعك بالمعنى الذي تظنينه .. سأؤجر لك خادمات يقمن بالمهمات التي تعملين أنت عليها و ستكون مهمتك فقط استلام الأجرة من المستأجرين و ترتيب القوائم و غيرها"
نظرت له طويلاً ثم همست :" لكني لا أريد خادمات .. أريد أن أعمل كما أنا و لا أريدك أن تعيشني في مستوى يختلف عن المستوى الذي أعيش فيه .. أنا فتاة لم أكمل تعليمي لذا .. فإن خير عمل لي هو الاشراف و الاهتمام بالمستأجرين بنفسي "
نظر لها بحيرة ثم قال :" لا بأس إذ كنتِ تخافين من وقت الفراغ الطويل فأنا سأساعدك على إكمال دراستك لكي تعملين عمل يليق بك فيما بعد .. و سوف نعيش في المدينة المجاورة في منزلي الجديد.. و سنترك هذا المنزل تحت اشراف شخص ما يكون أميناً و مخلصاً "
سميرة لم تحب أبداً أن يرفعها عبد الوهاب فجأة من عالمها البسيط إلى عالم تجهله .. و رغم لطف عبد الوهاب فأنها شعرت بأنها لا تستحقه .. أو ربما لن تتأقلم معه .. و لو صارحت سميرة نفسها لوجدت أنها لا تريد ترك هذا المنزل و المستأجرين الذين يعيشون فيه .. و لم تتخيل فكرة أن تجلس كالأميرة من حولها الخدم تكنس و تغسل .. فهذا هو اختصاصها و لا تحب أبداً أن تنتزع من شيء هي بارعة و ماهرة فيه ..
همست :" دعني أفكر "
خرجت من غرفته و تذكرت صباح التي ستعود لقريتها أخيرا .. فتحت سميرة الباب عليها و وجدتها تجمع حاجياتها ثم تضعها في الحقيبة .. اقتربت سميرة و في عينيها دموع ألم لفراق صباح التي كان قريبة جداً لها .. همست :" صباح !! سأشتاق لك "
رفعت صباح رأسها و ابتسمت و هي تفتح ذراعيها تستقبل سميرة بحضنها التي أجهشت بالبكاء كأنها ستفقد أختاً غالية لها .. هكذا هي سميرة .. تعامل مستأجريها كأنهم أخوتها و أقاربها ..لأنها و لطالما عاشت بلا أسرة ..
--
وقفت صباح و هي تحمل رضيعها و راحت تتأمل وجوههم بابتسامة عميقة ثم قالت :" لقد عشت أياماً سعيدة معكم "
و نظرت للعم طاهر قائلة :" عم طاهر اعتبرتك أبي الذي سأعود الآن لجبروته و تسلطه .. لكنك انت أب حنون و لطيف "
ابتسم العم طاهر مشجعاً و نظرت هي لحبيب بابتسامة ذات معنى :" حبيب ، منذ أن دخلت المنزل و قد أضفت نكهة مميزة فيه .. فعلاً لم أرى شخصاً مثلك متعاون و خدوم و أصيل "
ضحك حبيب و صاح :" لا تقولي ذلك .. سأبكي الآن "
و حولت أنظارها لحسين و ابتسمت قائلة :" حُسين .. الشاب الجذاب .. اهتم بنفسك و بصحتك .. لن أنساك أبداً "
هزّ الآخر رأسه بهدوء .. فنظرت هي سُهى و ضحكت و دمعة تترقرق في عينيها :
" سُهى ! آه .. سأفتقدك كثيراً .. اهتمي بدراستكِ و أتركي عنكِ جنون المراهقات "
ضحكت سهى بأسف و قالت :" رباه ! لا أريدكِ أن تغادرينا "
و نظرت صباح لوائل و ابتسمت و قالت :" وائل .. اهتم بنفسك .. لم اتعرف عليك بما يكفي فقط اسمع نصيحتي .. لا تتبع هذه الصيحات .. "
كتمت سهى ضحكتها و هي تراقب وائل الذي ينظر لصباح ببلاهة ..التي وجهت حديثها لعبد الوهاب :
" عبد الوهاب .. اهتم بولديك جيداً .. "
ثم نظرت لسميرة و تجعد وجهها حتى انفجرت ببكاء عارم كتمته طويلاً فلحقتها سميرة في الانخراط في النحيب و هما تحضنان بعضهما البعض ..
--
اجتمعوا مجدداً حول طاولة الطعام بعد أن غادرت صباح .. و سميرة لازالت متأثرة ..رمقها حبيب بلهفة و نهض و ناولها علبة المناديل و هو يربت على كتفها :
" لا بأس سميرة .. يمكنك الاتصال بها بين الفينة و الأخرى "
تأملها عبد الوهاب ثم ضحك :" الفتيات دائماً حساسات في هذه المواقف ، أتركها يا حبيب أنها تتدلل "
لكن حبيب ظل واقفاً قربها يتأملها بقلق و وائل يقول ساخراً و هو يخاطب سُهى :
" الفتيات حساسات ؟!! و لماذا لا تبكين انتِ ؟"
نظرت له سُهى من طرف عينها و اكتفت بالصمت .. فنظر وائل لحُسين الذي يتناول طعامه ببرود و قال له :
" حُسين .. ماذا ستفعل بحاسوبك المحطم ؟ إن ماركته ممتازة .. خسارة "
و كأن وائل يريد استفزاز حُسين مرة أخرى .. فقال حُسين بنبرة جافة :" رميته في القمامة "
شهقت سهى قائلة :" لماذا؟!!!! "
و تسمرت سميرة و هي تبادل حبيب نظرات الدهشة ..
و قال العم طاهر مستاءاً :" لماذا يا حُسين كان يمكنك تصليحه .. "
تنهد حُسين و قال دون أن يرفع ناظريه عن الطبق :" سأشتري غيره اليوم "
ساد شيء من الصمت حتى قالت سميرة بحماس :" هل يمكنك شراء حاسوب لي "
لحظات ! و انفجر الجميع بالضحك و صاح عبد الوهاب ساخراً :" سميرة ؟!! مالكِ و الحاسوب ؟ "
عقدت سميرة حاجبيها مستاءة من الضحكات الساخرة و قالت :" و ما له يا عبد الوهاب ؟ أنا لست أمية "
صاحت سهى :" تخيلوا ، تخيلوا .. سميرة تدخل على غرف المحادثات و ربما ترى من يحادثها أيضاً "
ضحك الجميع و سميرة لم تفهم ما تعنيه سهى لكنها شعرت بالإهانة .. فقالت على الفور:
" أنا لست جاهلة .. يمكنني تعلم أشياء كثيرة .."
صاح وائل :" يبدو أنها تريد تعلم كيفية الدخول على غرف المحادثة "
عادت سميرة ترمق حُسين قائلة :" هل تشتري لي واحداً .. ؟"
ابتسم حُسين :" سآخذك معي عصر هذا اليوم لنشتري ما تشاءين .. فالحاسوب ليس للعباقرة و لا الفلاسفة فقط "
تأمل حبيب ابتسامة حُسين لسميرة التي طارت من الفرحة ..
الجزء الثالث عشر
راحت سميرة تقطع البطاطا و هي تفكر ملياً و جذرياً في موضوع عبد الوهاب .. و وجدت نفسها لا تريده .. و عندما راجعت نفسها مراراً فأنها لم تجد أسباب مقنعة .. و فكرت (( إلى متى سأظل عانساً .. كالشبح أحوم في غرفتي .. ))
لكنها زفرت و أقنعت نفسها أن العنوسة ليست نهاية العالم .. فلو قذفت كل فتاة بنفسها إلى أي رجل هروباً من وحش العنوسة .. فأنها تهرب من وحش إلى وحش أكبر ..
(( أنا لم أستلطف عبد الوهاب من البداية لذا لن أجبر نفسي عليه ))
و وصلت سميرة لنقطة أنها سترفض عبد الوهاب خصوصاً عندما تذكرت وجه حبيب و هو يصرخ بها :
" أرفضيه "
حبيب الذي يفيض بالحُب لها .. كيف تتجاهله ؟ .. تذكرت فجأة كلمات حُسين لها و هي ترن في أذنها .. (( لماذا طلب مني أن أتحذر من حبيب ؟!! ماذا رأى منه ؟!! هل حُسين يظلمه أم العكس ؟))
شعرت بتضارب عنيف بأفكارها و رفعت رأسها ناحية الساعة فكانت الثانية و النصف ؟!! .. أعدت الغداء بسرعة .. و هي تتذكر موعدها مع حُسين لشراء الحاسوب ..
هنا دخلت سهى المنزل و هي تحمل حقيبتها المدرسية .. رمت بجسدها على طاولة الطعام و قالت بجهد :
" أنا جائعة يا سميرة .. "
باشرت سميرة بوضع الصحون على المائدة و هي تقلدها :" أنا جائعة يا سميرة !! أين السلام ؟"
تنهدت سُهى و هي ترمق الطبق :" السلام عليكم "
ضحكت الأخرى :" و عليكم السلام "
نظرت سُهى بخبث لسميرة و قالت :" اليوم ستذهبين لشراء الحاسوب أليس كذلك ؟"
اتسعت ابتسامة سميرة و هي تقول :" نعم .. أنا متحمسة .. "
ضحكت سُهى و قالت :" ألا تشعرين بغرابة ؟"
عقدت سميرة حاجبيها :" غرابة ماذا ؟"
ابتسمت سهى قائلة :" حُسين .. هو شخص انطوائي فظ غريب الأطوار.. لم أتوقع أن يقوم بدعوتكِ على مرافقته لشراء الحواسيب "
ابتسمت سميرة قائلة :"لماذا تقولين ذلك ؟!! ربما هو على حق أحياناً .. ألا تلاحظين أن الحق معه دائماً و لكننا نقف ضده لا شعورياً ؟ "
نظرت لها سهى قائلة :" أفهميني يا ذكية هل الحق معه عندما يعامل حبيب بشراسة .. و هل الحق معه عندما يتخطاني دون سلام و كلام .. و لا تنسي يوم ضربني ذلك الضرب المبرح ..و هل الحق معه أن يطرد كل من يدخل غرفته ينوي مناصحته ؟؟؟ هل الحق معه عندما رمى حاسوبه على وائل ؟ "
تنهدت سميرة هامسة :" لست أدري ببعض التفاصيل .. و لكني أرى وائل يتعمد التحرش به .. و أنت ترفضين قول ما دار بينكما فهذا يجعلني أشك أنكِ أسأت له .. بالنسبة لحبيب .. فهذا من أضع عليه علامة استفهام كبيرة.. لماذا هذه المعاملة معه و هو الذي يكاد يُقدسه .. حُسين لم يكلف نفسه عناء تبرير تصرفاته كأنه مقتنع بها .. و هذا يجعلني أحياناً أثق أنه على حق .."
هنا دخل حبيب المنزل وائل .. و خلفهما دخل حُسين .. و توزعوا على المائدة .. و جلس حبيب على مقربة من سميرة ظل يساعدها على توزيع الأطباق .. و همس بأذنها :" قلتِ لك يديكِ ناعمتين .. رفقاً بهما "
ابتسمت له بينما كان حُسين يتأملهما من طرف عينه .. وضع الملعقة على الطبق و نهض قائلاً لسميرة :
" سميرة تجهزي .. بعد نصف ساعة سنخرج "
--
" عبد الوهاب "
خلع ربطة عنقه و استدار لها مبتسماً :" نعم "
ارتبكت كلياً و قالت بهمس :" ابحث عن غيري .. فأنا رافضة .. اعذرني "
و ركضت مسرعة ناحية غرفتها .. بينما فتح هو عينيه بصدمة .. لم يتخيل أن سميرة ترفضه .. كم شعر بالندم لأنه تقدم لخطبتها و شعر بالاهانة الشديدة ..
بينما دخلت هي غرفتها و هي تتنهد براحة .. كانت محتارة كثيراً و لكنها الآن ارتاحت .. العنوسة أفضل من مستقبل مجهول .. طمئنت نفسها و راحت ترتدي عباءتها .. ثم حملت حقيبتها الكبيرة ..
سميرة نادراً ما تخرج من المنزل.. و إن خرجت .. فأنها تذهب للصيدلية أو للخضار أو بائع السمك .. الأماكن التي تذهب لها محدودة للغاية ..
كانت متحمسة جداً للخروج إلى محل الحواسيب .. خرجت من غرفتها و اتجهت للصالة و وجهت حديثها لحبيب :" أين حسين ؟"
نظر لها حبيب و رفع كتفيه قائلاً :" لا أدري"
مضت سميرة للخروج من المنزل فاستوقفها قائلاً :" سميرة .."
التفتت له فقال هامساً :" كوني منتبهة "
نظرت لها طويلاً و فكرت (( كل واحدٍ منكما ينبهني من الآخر ؟!! من أصدق ؟!! )) ..
تأملته مترددة فيما ستقوله لكنها قررت أن تقول:" حبيب .. أنا رفضت عبد الوهاب "
و مضت بسرعة بينما اتسعت ابتسامة حبيب بعدم تصديق و هو يهمس :" أعشقك حتى الموت"
خرجت من المنزل و هي تجر عباءتها الفضفاضة .. و رأت حسين ينتظرها في سيارته و هو يقرأ الجريدة ..
فتحت الباب الأمامي و جلست قائلة :" هل تأخرت ؟"
أشار برأسه سلباً و هو يترك الجريدة ثم يشغل السيارة .. و انطلق بالسيارة و لم يكن يبدو أنه سيفتح حواراً أو ما شابه مع سميرة .. فقالت هي بهمس :
" حُسين ؟ هل ستغادر المنزل ؟"
من دون أن ينظر لها صمت قليلاً ثم أشار برأسه سلباً .. تأملته طويلاً ..ثم نظرت للطريق مبتسمة :
" خفت كثيراً أن تغادر المنزل يوم بدأت بلملمة حاجياتك .. أتمنى أن تخبرني بكل ما يزعجك فأنا أولاً و أخيراً لا أقبل بأن تحدث نزاعات في منزلي "
قال بجمود :" لا تقلقي لن أثير المشاكل بعد اليوم "
رمقته لبرهة ثم قالت منفعلة :" لا أقصد انك أثرت المشاكل .. أقصد أني أتمنى أن تخبرني بما يزعجك فكما تعلم أنا أحاول أن أوفر كل أساليب الراحة النفسية و الجسدية و الروحية في منزلي "
ابتسم هو فضحكت قائلة :" منزل مثالي أليس كذلك ؟"
نظر لها ثم عاد ينظر للطريق :" بل امرأة مثالية "
تأملته طويلاً ثم ابتسمت ..
--
أمام محل الحواسيب .. أوقف حُسين السيارة و هبط منها .. فهبطت سميرة أيضاً و هي تحمل حقيبتها .. و دخلا المحل .. فانبهرت تماماً .. لأول مرة تدخل محل من هذه النوعية .. مضاء بالمصابيح الصغيرة الكثيرة .. ابتسمت بفرحة غامرة و هي تتأمل الحواسيب بمختلف نوعياتها و ألوانها .. أسرعت لمجموعة حواسيب ملونة بألوان فاقعة .. أصفر ، أحمر ، زهري ، بحري ، أخضر ....... كم دُهشت بمجموعة الحواسيب هذه ..
" هل أعجبوكِ "
نظرت لحُسين الذي يقف بجانبها يبتسم .. ضحكت و قالت بسعادة :" كثيراً .. ألوانها جميلة للغاية "
ابتسم حُسين و هو يتفحص أحد الحواسيب ثم قال :" أي لون تريدين ؟"
ابتسمت و اتجهت حيث أحد الحواسيب و أشارت له ببهجة :" هذا .. البَنفسجي .. "
و راحت تتأمل الحاسوب مدهوشة ثم قالت :" حتى الحبات لونها بنفسجي .. يا للروعة "
--
" تراااااااا "
التفت جميع من كانوا في الصالة لسميرة التي دخلت المنزل بمرح و هي تحمل أكياس محملة بطعام للعشاء بها رائحة شهية .. كانت مرحة و هي تقف وسطهم و تقول :
" اشتريت لي حاسوباً .. و بهذه المناسبة فأنا أدعوكم لعشاء فاخر على حساب حُسين "
و ضحكت بمرح و قلب حبيب يرقص على نغمة ضحكتها .. صاحت سُهى بحماس:
" أحقاً اشتريتِ الحاسوب يا سميرة ؟"
بادلتها سميرة ذات الحماس و هي تضع الأكياس على الطاولة و تهم بخلع العباءة :
" نعم .. لا يمكنك تخيل لونه .. لونه بنفسجي كأنه لعبة أطفال "
تحمست سُهى و قال حبيب :" و أين حُسين ؟"
أردفت سميرة بابتسامة :" سيأتي بعد قليل .. أظنه يحمل صناديق الحواسيب .. "
و انشغل وائل بتفحص الأكياس تلهفاً للعشاء .. بينما نهض حبيب قائلاً :" سأساعده "
خرج حبيب من المنزل ليرى حُسين يُخرج من صندوق السيارة صندوق كبير مطبوع عليه شعار لماركة مشهورة .. اندفع حبيب ناحيته ضاحكاً :" حُسين "
رفع الآخر عينيه ناحية حبيب بنظرات باردة و همس :" احمل الصندوق الآخر "
تلاشت ابتسامة حبيب بخيبة ثم ما لبث إلا و قد ابتسم مجدداً قائلاً :" هل كلفتكما الحواسيب كثيراً ؟"
لم ينظر حُسين لحبيب و مضى حاملاً الصندوق دون أن يرد .. فشعر حبيب بالإهانة .. انتابته موجة غضب عاتية لكنه كبحها و هو يهدئ نفسه فهذا مهما يكن حُسين و يحق له أن يفعل ذلك ..
الجزء الرابع عشر
صاح وائل و هو يرى حُسين مقبل حاملاً الصندوق :" آه !!! يا للروعة .. يا لحظكِ يا سميرة .. ماركة مذهلة"
ابتسمت سميرة بفخر و هي تراقب حُسين يضع الصندوق على الطاولة .. :" آه لا تحرجوني ! أنا اليوم سعيدة فعلاً "
جلست على الأرض و باشرت بإزالة الأشرطة اللاصقة من الصندوق و سُهى تساعدها متحمسة .. و حينها دخل حبيب و هو يحمل الصندوق الآخر .. تأمله حُسين ثم حمل الصندوق من يديه و مضى به لغرفته و الجميع يراقبه مدهوشاً !!
صاح وائل :" ما هذا الرجل ؟!! يا له من انطوائي لم يتحمل أن يبقى قليلاً لنرى حاسوبه ؟"
تنهدت سميرة و أخرجت حاسوبها من الصندوق فشهقت سُهى :" ربــــــــاه !!!!!!! رائع ، أقسم أنه رائع "
ابتسمت سميرة و هي تفتحه ثم قالت :" قال لي حُسين أنه سيعلمني كيفية تشغيله .."
راح وائل يتأمل الحاسوب بدهشة و اعجاب و ابتسم حبيب بهمس :
" سميرة .. أأنتِ سعيدة ؟! "
رفعت سميرة رأسها ضاحكة :" كثيراً .. كم أنا ممتنة لحُسين .."
تلاشت ابتسامة حبيب ببطء و هو يفكر في شيءٍ لم يسبق و إن فكر به أبداً ..
--
السيد عبد الوهاب صار يحتد اكثر في معاملة سميرة .. و غدا يعاملها كالخادمة بالضبط فكان ذلك ما يثير غضب حبيب ..عبد الوهاب ظن أن سميرة رفضته لأجل حبيب و ظل يحترق قهراً كيف ترفضه و هو التاجر الثري اللبق لأجل حبيب ثقيل الظل ..
حُسين و في غمرة الصراعات ..بين حبيب و عبد الوهاب .. فأنه كان منطوياً على نفسه لا يتدخل في هذه المشاجرات أبداً و لا يميل إلى أي طرف .. لكن وائل كان يصر على إزعاجه من حين لآخر ..
" حُسين لم أرَ شخصاً مثلك في حياتي .. كم أنت مذهل "
و أطلق ضحكة ساخرة و هو يعبث بالسلسلة المعلقة في رقبته .. رفع حُسين عينيه ببطء و همس :
" يا لسخافتك .. هلاّ تركتني أكمل عملي ؟"
ضحك وائل و جلس بجانب حُسين قائلاً :" أتعلم ؟ اريد ان تعلمني كيف تنظر بهذه النظرة القاتلة "
و بدا يقلده و يسخر و يضحك و يعلق .. بينما كان حُسين يضرب على حبات لوحة المفاتيح الخاصة بالحاسوب بعصبية واضحة .. ثم همس :" وائل .. غريب جداً أن يتصرف شخص بعمرك بهذه الطريقة البهلوانية "
أطلق وائل ضحكاً عالياً .. و لكن ضحكته تلاشت عندما رأى نظرات جادة و حادة من حُسين .. الذي أكمل :
" لن أسألك ماذا تريد مني .. لأنك أصلاً لا تعرف ما الذي تريده .. بدل أن تجلس معي هنا و تحاول إزعاجي كيفما اتفق .. ابحث لك عن أمر يسد وقت فراغك .."
شعر وائل بقليل من الحرج لكنه أخفاه بضحكة مصطنعة و هو محتار كيف يرد على حُسين الذي باغته ..
حينها لاحظ وائل قدوم سُهى .. ابتسم بخبث و هو يهز كتف حسين :" أنها المتيمة بك .. قادمة "
رفع حُسين رأسه ليرى سُهى مُقبلة .. ثم جلست على يمينه دون أن تنطق بحرف .. و كانها تنتظر مغادرة وائل .. الذي فهم اخيراً و غمز لها بخبث مغادراً ..
حينها نظرت سُهى لحسين الذي يعمل على الحاسوب.. تاملته كثيراً .. شعره الاسود الناعم ..و عينيه السوداوتين .. لون شفتيه الحمراوتين و لحيته الخفيفة .. قميصه الرمادي .. و ساعه يده .. هاتفه المحمول الذي يضعه بجانبه ..
لم تكن تخجل من تفحصه بنظراتها ..خاطبته قائلة :" كيف حالك ؟ "
فوجئت به يقول بصوتٍ حاد :" بخير "
شعرت أنه ليس مستعداً لدلعها و غنجها ..و كان ينتظر أن تدخل في صُلب الموضوع .. فاستسلمت قائلة :
" منذ ذلك اليوم و أنا أشعر بتأنيب الضمير .. فتلك ليست أخلاقي يا حُسين صدقني "

صابر المسالم 15 - 09 - 2010 19:53

رد: صوت الموت
 
" و بعد ؟"
نظرت له قليلاً ثم قالت :" سامحتني ؟"
هزَّ رأسه فوراً :" نعم .. "
و نهض و هو يحمل حاسوبه :" تُصبحين على خير"
--
جلس على سريره و وضع الحاسوب جانباً .. ثم أخرج من أحد الأدراج رسائل كثيرة وصلته عبر البريد .. تأمل أسماء المُرسلين و تنهد .. كان مُرسل واحد يدعى ( خليل ) .. مضمون الرسائل كانت دعوة لزفاف و أخرى دعوة لسهرة و ثالثة دعوة لحضور مؤتمر .. و الرابعة اقتراح بفتح مشروع خاص .. استند حُسين حتى طُرق الباب ..
فأجاب ببرود :" أدخل "
فُتح الباب و دخلت سميرة بمرحها و هي تحمل حاسوبها البنفسجي .. رغماً عنه فأنه ابتسم و هو يراها تحمل الحاسوب .. ضحكت هي و قالت :" لماذا ابتسمت ؟ مظهري غريب و أنا أحمل الحاسوب أليس كذلك ؟"
تأملها و أشار للمكان الذي بجانبه :" تفضلي "
ابتسمت و جلست و هي تضع الحاسوب بحجرها و قالت منفعلة :" تعلمت كيف لي ان أدون مذكراتي و لكني اواجه مشكلة .. أنظر "
ابتسم و هو يرمق الشاشة ثم همس :" و لماذا تدوينين مذكراتكِ في الحاسوب ؟ "
ضحكت سميرة و هي تقول:" لا أعلم و لكن .. اعني أنا لم أجد عملاً ممتعاً أقوم به في الحاسوب عدا كتابة المذكرات "
نظر لها لبرهة ثم قال :" حسنا ، ما هي المشكلة التي تواجهينها ؟"
ابتسمت و هي تغلق الحاسوب :" دعنا منها الآن .. حُسين أترى ما قمتُ به كان صائباً ؟"
نظر لها قليلاً فأوضحت :" اقصد رفضي بالزواج من عبد الوهاب ؟"
نظر له مندهشاً :" و هل تقدم هو لخطبتكِ ؟"
ابتسمت :" نعم و منذ فترة طويلاً و لهذا السبب علاقة حبيب بعبد الوهاب متوترة "
عقد حاجبيه قائلاً:" و ما دخل حبيب في الموضوع "
" لأنه وعدني بالزواج "
صوّب حسين نظرات نارية ناحية سميرة التي ارتبكت كلياً .. و ساد الصمت للحظات فقالت هي :
" لم تخبرني برأيك بقراري "
تنهد :" أنا لا أعرف عبد الوهاب جيداً"
كان يفكر براحة .. أمر عدم تزوج سَميرة لحد الآن يطمئنه و يريحه و يسعده ..
تأملته طويلاً ثم ضحكت بمرح :" حُسين .. هل ستذهب معنا للرحلة ؟ "
" أية رحلة "
ابتسمت :" لقد أعددت أنا و العم طاهر برنامجاً رائعا لرحلة لنا .. للترفيه .. ما رأيك ؟"
نظر لها طويلاً ثم ابتسم :" جميل .."
ضحكت هي بدهشة :" إذاً أنت موافق للمجيء معنا ؟"
عاد يبتسم بهدوء :" و لمَ لا .. متى ؟"
" يوم السبت المُقبل"
--
يستلقي حبيب في غرفته يفكر في سميرة .. و بدأ يحلل و يفسر بعض الامور الذي لم يكن منتبهاً لها .. أولاً .. لماذا تتردد سميرة على غرفة حُسين و تظل لوقتٍ طويل ؟ لماذا أشرفت سميرة بشكل كامل على الاهتمام بحُسين أثناء مرضه .. لماذا سميرة تهتم لوجود حُسين و تحاول إشراكه في الحديث ؟ و لماذا سميرة اشترت الحاسوب ؟ هل فعلاً كانت تريد شراء حاسوب .. أم .. أم هي تبحث عن موضوع يقربها من حُسين أكثر..لماذا تبدي سميرة تعاطفها الشديد مع حُسين ..
و فكر ملياً .. هل سميرة تفكر بحُسين و هل حُسين يفكر بسميرة ؟
فزع لهذه الفكرة !!!! لقد كان يعامل حُسين على أنه مسكين و مريض نفسياً و يحتاج لشخص ما يرفع معنوياته .. لذا فكان يشجع كل من يعامل حُسين معاملة حسنة .. لم يتوقع أن ثمة علاقة ستنمو بينه و بين سميرة !!
راح يفكر (( هل من المعقول أن سميرة فكرت في شخص مثل حُسين ؟؟ و لماذا أستنكر ذلك .. فحُسين جذاب و هذا أمر لا يختلف عليه اثنان .. و حسين كثير الصمت و ربما كان ذلك جذاباً أيضاً .. و لكـــــن .. لمَ تفكر سميرة بشخص مريض نفسياً .. آه !!! لم أتخيل أبداً أن حُسين يخطف مني محبوبتي .. هل هذا انتقام ؟ سلبت منه شرفه فسلب مني حبي ؟ آه !!!!!!! ليته سلب شيئاً آخر ))
الجزء الخامس عشر
رفعت سميرة رأسها و هي تراقب عبد الوهاب و هو يتناول غداؤه و هو يوبخ ابنه على استهتاره في الدراسة .. ثم نظرت لحسين و هو يتشارك مع العم طاهر في صحن السلطة .. و هما يتحدثان بصوت منخفض نسبياً .. ثم نظرت لسُهى التي تتأمل حُسين بابتسامة .. و وائل يتحدث بمرح يظن ان سهى تسمعه .. و هنا انتقلت سميرة بعينيها لحُسين الذي يتناول السلطة بشهية فابتسمت و قالت :
" حُسين ما رأيك بالسَلطة ؟"
نظر لها و هزَّ رأسه ايجابياً :" لذيذة كالعادة "
ابتسمت بينما كان حبيب يتأملها مبهوتاً .. ثم قال على الفور :" سميرة "
نظرت له قائلة :" نعم"
"أدعوكِ لتناول العشاء معي في المطعم اليوم .."
قال ذلك بابتسامة عريضة سرعان ما تلاشت عندما رأى سميرة تعقد حاجبيها بعدم رضا .. و هنا انطلق صوت سُهى :" ماذا ؟؟؟؟؟ و لماذا سميرة بالذات ؟ أنا أيضاً أريد الذهاب للمطعم "
سخر وائل منها :" من سيدعوكِ معه في مطعم فأنه ينوي أن يتقيأ العشاء "
و ضحك الجميع بسخرية بينما كانت سُهى غاضبة .. و كان حبيب لازال يتأمل سميرة التي تعقد حاجبيها ثم نظرت لحُسين الذي يوجه أنظاره للطبق الذي أمامه .. كان يتظاهر أنه ليس مهتماً بينما كان يشتعل .. و يفكر (( ماذا يريد حبيب هذا من سميرة ؟!! ربـــاه ))
خشى أن يتكرر ما جرى له .. لكن هذه المرة في سميرة ! مجرد أن خطرت بباله هذه الفكرة شعر بوغز حاد في قلبه و احتقن وجهه و هو ينظر بحدة لطبق السَلطة .. خصوصاً عندما سمع سميرة تقول :
" موافقة .. متى سنذهب ؟ "
ضحك حبيب بسعادة و قال :" الساعة الثامنة .."
انتبه الجميع على حُسين و هو يترك الملعقة على الصحن و ينهض قائلاً :" حمداً لله "
--
لكَم كان مؤلماً .. و في فترة المساء .. أن تدخل سميرة على حُسين و تقول و هي تعقد أزرار عباءتها بعجل :
" حُسين .. لقد جهزت لك العشاء .. و وضعته في الخزانة المجاورة للفرن .. "
تأملها حُسين و هو على سجادة صلاته يقرأ القرآن .. شعر بغصة و هو يقول :
" ستخرجين الآن مع حبيب ؟"
شعرت بضيقه الشديد فاصطنعت ضحكة و قالت :" نعم .. "
تاملها طويلاً ثم حاول أن يبتسم :" سنفتقدكِ أثناء العشاء "
نظرت له لبرهة و ابتسمت بفرحة قائلة :" شكراً .. وداعاً "
لوحت بيدها و غادرت .. بينما كان هو يتابع ظلالها و هي تغادر .. تنهد طويلاً و هو يدعو ربه أن يحفظها .. كان يشعر بفاجعة ستحدث .. بالرغم من أخلاق حبيب الطيبة حالياً ..
نهض يلملم سجادته و خرج ليبدل جو الملل الذي أصابه .. نزل الدرجات و هو يسمع صوت طاهر من الصالة ..
" يا وَلدي هذا عصيان لله تعالى قبل أن يكون تشويه لسمعتك و نفسك "
تنهد وائل و هو يتمدد على الأريكة و صاح :" ماذا يعني ؟ لا تعقدها !! هل الله سيحرقني في جهنم لأجل نمط معين اعتدت عليه .. هل هذا الوشم الذي وضعته في رقبتي سيضر بالناس ؟ هل الحلق الذي سأضعه سيضر بكم ؟ لذا .. فهذه حرية شخصية "
ثم نظر لحُسين الذي جلس بجوار العم طاهر و هو يقول بهمس :" السَلام عليكم "
رد العم طاهر السلام ثم ما لبث إلا و قد عاد للموضوع :" هذه كلها بِدع و أمور سخيفة صنعتها تلك الامم الفاسدة .. فالوشم حرام يا ولدي .. الظهور بهذه الصورة تُقسي قلبك و تبعدك عن الله "
صاح وائل :" أنا أصلي أليس هذا كافياً ؟!!!!!! لماذا الدين يتدخل في كل شيء في حياتنا .. رباه! "
نظر حُسين ببرود لوائل ثم سحب الجريدة و فردها .. و قال العم طاهر بحنان و لطف :
" يا وَلدي و هل تظن أن المظهر الذي يرضي الله ليس جميلاً ؟ بالعكس .. خلقنا الله خلقة جميلة فلماذا نشوهها بالأوشام و لماذا نفسد أجسادنا و وجوهنا بغرس الحلق ؟ و لماذا لا ندع شعرنا على طبيعته بدون مثبتات و لا ألوان و لا مواد ..و لماذا نحذف نحن الرجال دليل رجولتا و هي اللحية .. "
ضاق وائل ذرعاً و صاح :" كفى أنا حر "
ثم نظر لحُسين الذي لم يعلق أبداً و خاطبه :" ألا ترى يا حُسين أن لكل شخص حرية صنع مظهره الخاص و طلته المميزة حسب ذوقه .. لا يتدخل فيها دين و لا علم و لا خرافات .. "
نظر له حُسين ثم قال مستنكراً :" طلة مميزة ؟ "
و قال باحتقار :" و هل تسمي هذه الخردة التي ترتديها طلة مميزة "
ثار وائل غضباً فقال العم طاهر فوراً :" لا يا حُسين "
تنهد حُسين و هو يعود بعينيه للجريدة بينما وائل يشتعل .. و هو يقول :" سكت دهراً و نطق كفراً "
--
في مكان آخر ..تصدح به الموسيقى الكلاسيكية .. و الأضواء الخافتة .. كانت تجلس مرتبكة و هي تحكم الخمار جيداً حول وجهها و تعود تتلفت حولها .. فابتسم لها و همس :
" ما بكِ حبيبتي ؟"
رمقته بحدة و قالت :" حبيبتي ؟! هل جئت بي لهنا لتسمعني هذا الكلام؟"
لازال على ابتسامته و قال :" وددت التعبير عن مشاعري إذ لم تتيقني بها .. لأني و منذ أن دخلت منزلك شممت عطرك .. و شعرت بوجود انثى لا تماثلها أنثى .. أعشقك حتى الموت .. أهواك .. صرت لا أفكر في أحدٍ سواكِ .. فأنتِ ملاكي و عشقي الأبدي "
نظرت له طويلاً و أشاحت بوجهها فهمس :" من الذي يجعلك تصدينني و أنا الذي أتمنى ابتسامة من شفتيكِ"
غضت بصرها بارتباك ثم همست :" بصراحـة ........."
قال فوراً :" ما الذي قاله حُسين عني ؟ "
رفعت رأسها مصدومة فقال:" لا أدري ما الذي قاله و لن أفكر في ذلك لأنه شخص غريب .. مريض نفسياً أصيب بمشاكل عدة في حياته و لذا فأنا أشفق عليه "
تأملته قليلاً فقال بنبرة حانية :" لطالما حاولت طمئنته و تهدئته .. لكنه في النهاية مريض نفسياً .. لن يعالجه إلا طبيب مختص "
رمقته سميرة لبرهة ثم قالت :" لكنه و في الآونة الأخيرة يتصرف بشكل طبيعي .. و لا تنكر أن نوبات غضبه نوبات طبيعية بالنسبة للمواقف التي تحصل له "
هزَّ حبيب رأسه بتأييد ثم قال :" أنا موقن أنه شخص طبيعي لكن هنالك عقدة يجب فكها .. أتعلمين ؟ أنه لا يملك أصدقاء ؟ و لا ينوي الزواج بتاتاً و يفضل دائماً أن يعزل نفسه ..بسبب حوادث كثيرة جرت له في مرحلة الطفولة .. فأنه و إن بدا طبيعياً فأنه من الداخل يتألم و يتعذب "
تأملته سميرة و هو يكمل :" قد حدث و إن رأيته يهلوس و يقول أشياء غريبة .. يقول أنتم أناس قذرين .. و أنتم .. و أنتم .. لا أدري لمَ يكن لي هذا الحقد مع أني لم ألتقي به إلا من فترة وجيزة و هذا أكبر دليل على وجود مشكلة به "
هزّت سميرة رأسها مؤيدة فأكمل :" حادثت العم طاهر فقال لي هو أيضاً أنه شهد مواقف أكثر تدلل على غرابة هذا الشاب .. لذا أصررت على التكفل بامر علاجه في عيادة نفسية بأسرع وقت ممكن"
قال ذلك باعتزاز كبير فقالت سميرة و هي ترمقه باعجاب :" جميل جداً .. و لكن لا أظن حُسين يقبل .. شخصيته عصبية للغاية و لا يستطيع أحد إقناعه بأمر ما لم يقتنع هو به "
ابتسم و هو يقترب بوجهه لها :" عزيزتي .. لا تشغلي بالك .. سارسله للمشفى رغماً عن انفه .. لكن المُهم ألا تتدخلي أنتِ بالموضوع فتفسدي كل شيء "
نظرت له سميرة هامسة :" ما العقدة بالتحديد "
كأن حبيب كان ينتظر منها هذا السؤال لكي ينفرها أكثر فأكثر من حُسين .. فهمس و هو يتلفت حوله :
" تعرض للاغتصاب في طفولته "
فتحت سميرة عينيها بصدمـــة !! ثم همست :" ماذا تقول أنت؟ "
هزّ حبيب رأسه و قال :" طبعاً يا عزيزتي .. تعرض للاغتصاب حتى صار مُعقداً هكذا "
عقدت سميرة حاجبيها ليست مُصدقة ثم قالت :" ماذا تقول أنت؟ لا تقل انك تكذب !!"
قال بثقة :" أقسم على ذلك .."
تأملته مصعوقة ثم همست :" و كيف عرفت أنت ذلك ؟"
تنهد و قال :" منذ اليوم الأول كان يعاملني كأني عدوه .. و ينعتني بالحقير و الوقح .. كلما حاولت التعرف عليه .. كنت شاكاً بهذا الموضوع .. لربما كان يربطني بشخص ما يكرهه .. و اثناء الحمة التي أصابته كان يهلوس .. و كنت ازوره في الليل لأطمئن عليه .. فسمعت كل هلوساته و قد افشى عن الحقيقـ............"
فوجئ بها تضع كفيها على فمها بفجيعة و قد سالت من عينيها بعض الدموع و همست :
" كنت اقول أنه يتعذب .. و لم أكن أعتقد أنه ........."
و نهضت مسرعة و هي تمسح دموعها ..
ابتسم و هو يراقبها تغادر و قال في نفسه (( آسف عزيزي حُسين .. كان لابد ان أحمي نفسي .. لا بأس .. سميرة ستشفق عليك الآن و ربما تعتني بك قليلاً لكن فطرتها ستجعلها تنفر منك و تكرهك و تشمئز منك قريباً ..لا بأس لا بأس .. كنت أسعى لمراضاتك و لكن يا حُسين .. إلا سميرة .. إلا سميرة لن أفرط بها "
الجزء السادس عشر
فُتح الباب بعنف و انطلقت سميرة و هي تتعثر بعباءتها و وجهها أحمر إثر بكاءها .. العم طاهر اهتم لأمرها و وائل نادها و سُهى لحقتها و عبد الوهاب أوقفها .. و حُسين ...... لكم أن تتخيلوا حُسين و هو يرى سميرة تعود من لقاء لها مع حبيب القذر باكية !!!!!
ماذا فعل حبيب بسميرة ؟!!!!!!! نهض حُسين بنيرانه و أبعد وائل عن طريقه بقوة و وقف امام سميرة .. تأملها و هي تغض طرفها عنه .. و الدموع تغرق وجهها ! ..
همس بخوف :" سميرة ما بكِ ؟"
قلبه يدق كطبل افريقي مجنون .. برزت حبات العرق على جبينه .. و مسامعه تلتقط صوت الموت القادم من بعيد مثيراً في نفسه الفزع و الرهبة من المستقبل الآتي ..
نظرت له قليلاً و عينيها شديدتا الاحمرار .. ثم انفجرت باكية و هرعت لغرفتها تلحقها سُهى ..و جرى حديث بين عبد الوهاب و العم طاهر .. بينما كان حُسين يقف متسمراً .. تحول لصنم ! و هو يرمق سميرة تدخل غرفتها و تغلق الباب من خلفها بقوة ..
خطر بباله خاطر بشع .. تخيل حبيب و هو يمد يديه القذرتين و من فمه يسيل اللعاب .. لم يستطع التحمل و كيانه يوشك على الانهيار .. عقله لم يستوعب فكرة أن حبيب يلمس شعرة من سميرة ..
خرج من المنزل مسرعاً و وقف يراقب حبيب الذي ترجل سيارة الأجرة ..ثارت نيرانه .. انفجر بركانه .. راح يلهث بقوة و هو يتأمل حبيب الذي يقف بارتباك و خوف ..اقترب منه خطوة خطوة .. و قلبه ينبض بإسم سميرة ..
وقف أمامه هامساً بصوتٍ متحشرج :"ماذا فعلت بسميرة "
هرب حبيب بنظراته و هو يفتعل ضحكة .. ثم صُدم بصفعة ألجمت وجهه .. نظر لحُسين مصعوقاً و هو يضع يده على خده :" تصفعني يا حسين "
قبض حُسين على قميص حبيب و في عينيه نظرات مخيفة تنذر بخطر عاتي .. همس بين أسنانه :
" ماذا فعلت بسميرة يا وقح "
خاف حبيب ثم صاح :" لم ألمسها أقسم أني لم ألمسها .. و رب الكعبة أني لم ألمسها .. يمكنك سؤالها .. لكنها بكت لأن النادل سخر من لباسها و هذا ما جرى و حسب "
تأمله حُسين بغير اقتناع و تركه بقوة و هو يلهث .. ثم عاد أدراجه ..
--
بينما كانت سميرة مستلقية على سريرها تبكي بحرقة و بجانبها سُهى قلقة :" سميرة !!! ما بكِ ما الذي جرى"
نظرت لسُهى و الدموع تغرق وجهها ثم همست :" لا شيء .. اتركيني وحدي أرجوكِ"
نهضت سُهى حائرة ..و ظلت سميرة تفكر و طبقة من الدموع بعينيها .. ليست مصدقـة ما سمعته من حبيب.. تذكرت حُسين بصمته المريب .. تذكرته و هو ينهال ضرباً على سُهى .. تذكرته و هو يقبض على قميص وائل و يزمجر :" كيف تجرأ ؟ " تذكرته و هو يلتفت لحبيب بنظرة حقد عميق و يهمس :
" لو كنت سأموت أنت آخر شخص سأطلب المساعدة منه "
تضاربت الذكريات ببالها و هي تضع أصابعها على شفتيها تمنع شهقاتها .. و تذكرته و هو يلتفت لها مبتسماً:" امرأة مثاليــــــة "
هزّت رأسها سلبياً تنفض كلمات حبيب من بالها التي تكررت برأسها تكرار مميت (( حُسين تعرض للاغتصاب ! حُسين تعرض للاغتصاب ! حُسين تعرض للاغتصاب ))
شعرت برغبة عارمة بالتقيؤ .. و لم تحب أن تخرج من غرفتها .. لكي لا تراه أبداً ..
--
في الجانب الآخر.. نسى الجميع الأمر بمجرد أن جاء حبيب و فسر لهم بكاء سميرة على أنه بسبب حساسيتها ناحية العالم الخارجي .. و قريباً ستتعود ..و قال :" لا أريد منكم فتح هذا الموضوع معها فهو يحرجها "
الجميع يظن حُسيناً ليس مهتم .. كان يستلقى على الأريكة ممسكاً بجهاز التحكم .. عينيه موجهتان للتلفاز و لم ينطق بأي كلمة أثناء حديث حبيب .. لكن حبيب كان يراقبه باهتمام و قلبه يدق بقوة .. خشى فعلاً من هذا الانسان الذي يتحول فجأة لذئب مفترس .. ثم ما يلبث إلا و قد عاد لهدوئه ..
لاحظ حبيب سرحـان حُسين .. و عينيه اللتين تتجهان تدريجياً نحو غرفة سميرة .. ظل ينظر لغرفة سميرة طويلاً .. و حبيب يغوص في قلقه .. و هو يرى حسين لازال يحدق بباب غرفتها بملامح مجهولة .. حتى أفزعه وائل بصرخة :" حُسين !!!!!! "
عقد حُسين حاجبيه بضيق و هو ينظر لوائل و قال :" نعم ؟!! "
صاح وائل بفوضوية :" ما هذه القناة الرديئة التي تتابعها .. أعطني جهاز التحكم .. "
تنهد حُسين و رماه بجهاز التحكم ثم نهض متجهاً لغرفته..
--
نامت سميــرة تلك الليلة و بعد عناء طويل ، استيقظت صباح اليوم التالي .. على نهار مسود كئيب .. لازالت غير مُصدقة .. ظلت طويلاً على الفراش تمتحن مشاعرها .. يا ترى لمَ هي مهتمة بأمره؟ و إذ كان قد ضيع شرفه .. فلماذا تحمل هي هذا الهم على رأسها ؟!! أم أنها ..... تُحبه ؟!! هزّت رأسها سلبياً بنفور و هي تعيد كلام حبيب على مسمعيها (( حُسين يقول أشياء غريبة .. حسين ضيّع شرفه في صغره .. حُسين يحتاج لطبيب نفسي .. )) يا ترى لو كانت تحبه .. ستحبه على ماذا بالضبط ..
نهضت من السرير مُثقلة .. و بدلت ثوبها على الفور و ارتدت خمارها .. خرجت من غرفتها بتكاسل على غير عادتها ..راحت تُعد الفطور و العم طاهر يحوم حولها يُخبرها بالأشياء التي اشتراها للمنزل ..
" سميرة يا ابنتي .. وضعت الطماطم هنا .. أنظري .. هنا "
تنهدت بضيق :" شكراً عمي "
تفقدها بنظراته و أغلق الثلاجة ثم خاطبها بهدوء :" هل أنتِ بخير؟!! "
من دون أن ترفع رأسها هزت رأسها ايجابياً .. كانت في أية لحظة ستنفجر بالبكاء .. فاستشعر هو ذلك .. فلم يرد أن يزيد الضغط عليها و تركها تعد الفطور بهدوء ..
ثم وجدت أنها يجب أن توقظ المستأجرين .. كم كانت تخشى سؤالهم .. فماذا ستجيبهم يا ترى .. طرقت الباب على سُهى و نادتها ثم أسرعت لغرفة عبد الوهاب هاربة منها و طرقت الباب على عبد الوهاب ثم أسرعت لغرفة حبيب هاربة منه ..و طرقت الباب على حبيب لكنه لم يمنحها فرصة للهروب .. أسرع بفتح الباب و همس بحنان :" سميرة "
من دون أن ترفع رأسها همست :" الفطـ.... الفطور جاهز "
همس :" لا أريد فطوراً .. أريد الاطمئنان عليك يا أغلى ما عندي "
رفعت رأسها و تأملته بحُزن فحثها على الدخول لغرفته .. لم تكن تطمئن للدخول معه في غرفته قبل هذه اللحظة .. لكنها اليوم مستسلمة لكل شيء .. دخلت الغرفة و رمت بجسدها على المقعد ..
و يا للمفاجأة فقد انفجرت بالبكاء !!! أسرع لها حبيب و جلس قرب أقدامها و أمسك بيديها منفعلاً :
" سميرة !! ما بك حبيبتي .."
أبعدت يديها بهدوء و همست :" حُسيــن .. أنه مسكين فعلاً "
تأملها حبيب و حاول أن يبتسم :" كما عهدتكِ قلبكِ رقيق للغاية لكن الذنب ذنبه لأنه لم يحافظ على نفسه كثيراً في تلك المرحلة الخطيرة .. عزيزتي العلاج لا يزال أمامنا .. سأفاتحه قريباً في موضوع العلاج النفسي"
هزّت سميرة رأسها و هي تمسح دموعها ثم همست :" و الرِحلة ؟"
ابتسم :" بالتأكيد سيأتي معنا اغداً للرحلة ..ربما تتحسن نفسيته "
نهضت فأمسك بيدها برفق و همس :" أأنت بخير"
قالت بحدة :" حبيب لا تلمسني .. ما تفعله سيجعلني أندم أني دخلت غُرفتك "
ابتسم لها و همس :" صدقيني كل ما أفعله ليس بإرادتي .. أنا أحبكِ بجنون "
تتهدت و خرجت قائلة :" الفطور جاهز"
--
خرجت سميرة من غرفة حبيب و أنظارها مصوبة على غرفة حُسين .. استجمعت قواها و اتجهت نحو تلك الغرفة لتطرق الباب .. وقفت طويلاً أمام ذلك الباب محتارة ..و هي تتذكر ما قاله حبيب .. مشاعر متضاربة (( شفقة ، حزن ، نفور ، كره ، و ........... حُب ؟!! )) تذكرته بالأمس و هو يقف أمامها بنظرات خوف شديد هامساً :" سميرة ما بكِ ؟"
مدت يدها لطرق الباب .. لكنها فوجئت بالباب ينفتح .. فوجئ هو أيضاً بها ..و كلاهما تسمر طويلاً ناسياً ما كان سيقوله .. سميرة كانت ستقول أن الفطور جاهز و حُسين كان سيسألها عمّا حدث بالأمس ..
رمقها طويلاً و همس :" صباح الخير سميرة "
حاولت أن تبتسم لم تستطع إلا أن تقول بجفاء :" صباح النـور .. مم .. أ.. الفطور جاهز "
و استدارت للمغادرة لكنه استوقفها :" لحظـة "
الجزء السابع عشر
حاولت أن تبتسم مرتبكة :" صباح النور .... مم .. أ .. الفطور جاهز "
و استدارت للمغادرة لكنه استوقفها :" لحظة "
التفتت له قلقة من ذلك السؤال و بقلبها شعور غريب ناحيته .. تريد أن تهرب و تريد أن تبقى .. تريد أن تتكلم و تريد تصمت .. تريد أن تبتسم له و تريد أن تعبس بوجهه ..
تفحصها بنظرة ثم همس بقلق :" هل أنتِ بخير ؟"
لم يتجرأ أن يبوح لها بالخوف الساكن بقلبه منذ ليلة البارحة يوم رآها تبكي عائدة من لقاء لها من حبيب .. لم يتجرأ أن يخبرها أنه نوى قتل حبيب لمجرد فكرة خطرت بباله .. لم يتجرأ أن يخبرها أنه لم ينم إلا ساعتين عانى فيهما كوابيس مريعة ..
هزّت رأسها ايجابياً :" بخير .. آه .. البارحة أُرهقت فجأة و .. في الحقيقة لا أعلم ما الذي حل بي .. لكني اليوم بخير"
--
يمد العم طاهر يده ناحية الخبر و يضعه أمام حُسين ثم يربت على كتفه و ينخرط في حديث ممل عن خططه بزراعة الحديقة بأنواع الفواكه .. بينما يرفع حُسين بصره ناحية حبيب الذي يجلس بجانب سميرة و يضحك و يأخذ راحته .. قطب حُسين حاجبيه باستنكار و هو يرى حبيب يصر على وضع اللقمة في فم سميرة التي همست باستفزاز :" حَبيب!!!!.. "
وائل كان منتبهاً أيضاً لذلك صاح :" ماذا أرى ؟!!!!!! عصافير الكناري .. "
و أطلق ضحكة تلتها تساؤلات سُهى بالذي جرى .. ,و سميرة تبدو حَرجة ..بينما وجّه حُسين نظرات نارية لحبيب و لم يتمكن من ضبط أعصابه أكثر فقال بحدة :" يا لك من قليل أدب .."
فتح حبيب عينيه بصدمة و تلاشت ابتسامته .. و رفع عبد الوهاب رأسه غير مستوعبٍ الأمر .. و ظن العم طاهر أن هذا مجرد جنون من حُسين بغير علم له بالذي فعله حبيب ..لكن ما أثار جنون حُسين فعلاً ..ابتسامة حبيب المغيظة و هو يقول :
" ماذا ؟ ألن ننتهي من مشاكلك "
لم يتوقع حُسين رداً من حبيب كهذا ..و تجمعت الشياطين برأسه .. و صوّب نظرات قاتلة ناحية حبيب الذي بدأ يخاف .. و تأهب وائل لصد أي هجوم مباغت ..
نظرت سميرة بقلق ناحية حُسين الذي قال بنبرة غضب شديدة:" اعتبرها مشاكل مني .. لا يهمني لأني لن أتجاهل بعد اليوم تجاوزاتك .. "
همس العم طاهر :" حُسين !! ما بك ؟ "
و قال وائل بضيق :" يا له من غريب "
ثار حُسين بغضبه و التفت لوائل صارخاً :" اخرس أنت "
ثم التفت للعم طاهر و قال بحدة :" أنت الذي يجب أن أقول له ما بك ؟ ما بك عم طاهر .. ألست تراه يتحرش بسميرة أم أن حبيب الخدوم المتعاون الطيب لا يخطئ أبداً ؟ "
فتح العم طاهر عينيه بصدمة و همس :" و متى تحرش بها "
و ارتبكت سميرة كثيراً بينما صوب عبد الوهاب نظراته لحُسين الذي احترق و لم يعد يحتمل .. نهض صائحاً :" متى ؟ الآن أمام عينك .. رباه !!!!!"
فتحت سُهى عينيها على أقصاهما و راقبت حُسين و هو يبتعد ناوياً بالخروج من المطبخ تلحقه نظرات سميرة و الجميع .. حينها استوقفه صوت حبيب :" عم طاهر .. كما قلت لك .. كل شيء بعقله ( بح ) .. "
استدار حُسين لحبيب بنظرات حقد و كره .. ثم همس :" إذ كان لديك ما تقوله .. فقله بوجهي .. "
نظر حبيب لسميرة و ترك الملاعق ناوياً أن يشعل النار أكثر .. اقترب من حُسين و قال بتحدي :
" ها أنا أواجهك .. و أقول لك أنت بحاجة لطبيب نفسي .. صرت تتصرف بشكل لا يطاق و لسنا مجبورون على احتمالك أكثر .."
نظر حُسين لحَبيب بنظرة نارية أرعبته ثم همس :" إذ كنتُ أنا أحتاج لطبيب نفسي فأنت تحتاج لإعادة تربية .. لن أحتمل تواجدك أمامي أكثر .. و تصرفاتك الصبيانية سكتتُ عنها كثيراً"
ابتسم حبيب بخبث و همس :" أي تصرفات تقصد يا أستاذ ؟ أنا و سميرة بيننا وعد بالزواج .. لا أعتقد أنه من اللطيف أن تتدخل بيننا "
تأمله حُسين بقهر و قد احمر وجهه ثم نظر لسميرة التي تقف بارتباك و قلق.. فأكمل حبيب و هو يربت على كتفه بابتسامة معينة :" حُسيــن .. كم يؤلمني أمرك .. ما تعرضت له ليس بالشيء اليسير "
نظر حُسين لعيني حبيب بتوجس و هو يكمل :" نعم .. تعرضك للاغتصاب في طفولتك يحتم عليك أن تكون مريضاً نفسياً "
و ابتسم بمكر :" أليست هذه الحقيقة التي تحاول إخفاءها ؟! "
فتح حُسين عينيه بصدمة ! كأن بصاعقة نزلت من السماء عليه .. لم يستوعب الكلمات التي صدرت من حبيب بكل جرأة .. راح يتأمل عينيه متسمراً .. راح يتأمل ابتسامته الكريهة ثم نظر لهم ..
كأن على رؤوسهم الطير .. نظر لسميرة فكانت تبكي !! تنهد بضيق و هو يتنفس بصعوبة ..و دفن نظراته في الأرض .. شعر بصراعات و حروب قائمة بداخله .. شعر بحرقة .. بألم .. و هو يستعرض شريط الذكريات أمام عينيه ..و هو يتذكر الفاجعة التي حَدثت منذ سنين .. شعر بها تتكرر الآن .. شعر بشموخه و كبرياءه و غروره بل و رجولته و انسانيته .. كل هذه الأشياء تنهار منه و تتلاشى أمام كلمات حبيب الجَريئة .. رفع رأسه بملامح مرعبة .. ملامح مميتة ..
انكمشت سُهى و تسمرت سميرة .. و تصلب وائل و بُهت العم طاهر .. و ازدرد عبد الوهاب ريقه بصدمة .. نظر لحبيب الذي يحارب خوفه .. و همس بصوت آتٍ من أعماق أعماق الموت ..:
" لمَ قُلت الحقيقة ناقصة ؟! لمَ لم تقل أنك من ..........."
و شعر بغصة بصدره فبتر ما كان سيقوله ..و هو يشعر بنيران مُلتهبة بداخله .. بينما نظرت سَميرة بقلق لملامح الاحراج المخلوطة بالقهر الشديد على وجه حُسين الذي مشى و هو لا يرى طريقه ..
تبادل الجميع نظرات استغراب و اندهاش و صدمة و تحولت الأنظار لحَبيب الذي لم يتوقع أن يمشي حُسين ببساطة هكذا .. توقعه سيفجر المطبخ بما حَوى ..
هَمس العم طاهر لحَبيب :" ماذا قُلت ؟ كيف .................."
هنا سمعوا صوت سقوط أحدهم فأسرعوا للخروج من المَطبخ .. شَهقت سَميرة و هي تضع يديها على فمها .. و هي ترى حُسين مرمي على عتبات السُلم الحادة _ مُغشاً عليه ..
--
هرع الجميع بصدمـــة لحُسين .. و حَبيب يقف مدهوشاً مستشعراً للفاجعة التي حلت على قلب حُسين الذي لم يستحمل المَزيد ..
صاحت سُهى و هي تنفجر بالبكاء :" عَم طاهر إن جبينه ينزف "
جلس عبد الوهاب مسرعاً قرب رأس حُسين .. راح يهزه بعنف صارخاً :" حُسين .. "
ثم صرخ :" اجلبوا ماءاً .. بسرعة "
ركض وائل ناحية المَطبخ مرتبكاً .. و من جهة أخرى تنزع سُهى الإيشارب الذي تلفه حول رقبتها لتناوله العم طاهر و هي تصرخ :" أوقف النزيف بسرعة "
ظل حَبيب متسمراً و هو يفتح عينيه بصَدمة ثم يعض شفتيه بندم مرير .. و هو يرى العم طاهر يحاول ايقاف النزيف و هو يكرر بقلق :" بسم الله الرحمن الرحيم .. لطفك يا رب .. لطفك يا رب "
و في الجهة الأخرى يأتي وائل راكضاً و هو يحمل الكأس .. ثم يوشك أن يتعثر بالسجادة .. لكنها تفادى ذلك بسرعة و هو يقدم الكأس لعبد الوهاب .. و سميرة غارقة في نحيبها .. يزداد خوفها على حُسين أمام غضبها العارم من حبيب .. صرخت به :" ألا تملك قلباً ؟ بربك ماذا فعلت به ؟! "
شعر حبيب بغصة فوق غصاته و هو ينظر لعبد الوهاب الذي ينثر قطرات الماء على وجه حُسين المُحمر ثم يهزه صارخاً :"حُسين .. حُسين "
بينما كان العم طاهر لازال يضع ايشارب سُهى فوق الجرح و قد امتلئ بالدم ..
صاح الجميع بدهشة و هم يرون حُسين يفتح عينيه الناعستين تدريجياً ..
--
تأملته سميرة و الدموع متجمعة بعينيها الفيروزتين .. و شعر حبيب بألم و هو يرى عبد الوهاب يساعد حُسين على الجلوس .. ثم التفت لوائل قائلاً :" اجلب ماءاً له "
و راح العم طاهر يربت على كتف حسين بحنان و هو يهمس :" هل أنت بخير ؟ "
كانت ملامح حُسين مجهولة غريبة و هو يحدق في اللا شيء .. فصاحت سُهى :" جبينك .. سوف آتي بالضمادات "
حبيب كان يتأمله بحزن ثم ينظر لسميرة فيراها متأثرة .. تناول عبد الوهاب كأس الماء من وائل و قدمه لحُسين الذي شربه دفعة واحدة ..ثم راح يلهث بشكل مرعب ..
بينما يحاول العم طاهر أن يُلطف الجو و هو يمسح على شعر حُسين قائلاً :
" لا بأس عليك ، لم يحدث شيء أبداً .. "
اقتربت سَميرة و هي تهمس :" أظن أنه من الأفضل أن ننقله لغرفته ليرتاح "
رفع حُسين رأسه و نظر لسميرة بنظرات لم تفهمها .. و كانت الأفكار تحوم برأسه ..
(( سَميرة ! هل عرفتِ كل شيء ؟!! هل عرف الجميع كل شيء ؟ هل انتهى كل شيء ..؟!!! ))
بينما أسرعت هي للغرفة تنسق السرير و تحضر المعقم و الشاش .. و حَبيب لم يتحمل أن يرى حُسيناً يتأذى كل هذا الأذى بسببه فأطلق ساقيه لغرفته و أقفل الباب ..
رمى بنفسه على السرير و ظل يلعن نفسه (( حَبيب !!!! ياه! ماذا فعلت يا حبيب بحُسين !!!! اغتصبته و فضحته ؟!! كم أنت قذر يا حَبيب .. ليتك يا حُسين تفضحني كما فضحتك .. و تخبرهم أني من فعل ذلك بك ربما ذلك يخفف عني تأنيب الضمير ))
لكن هيهات.. حُسين يظل دائماً يهرب من ذلك الماضي الأسود المميت .. و لن يذكر منه أي شيء أمام أي أحد ..
و على ذلك السرير استلقى و هو يغمض عينيه .. الجميع كان حوله .. سُهى أمسكت يده الباردة و هي تقول بقلق :" حُسين .. أرجوك .. اطرد كل الأفكار من بالك الآن .. لا تفكر بشيء .. لا شيء يستحق .. و حبيب البغيض لا تهتم لما يقوله .. لا تهتم "
بينما قبّل العم طاهر رأسه هامساً :" اسم الله عليك يا وّلدي .. "
ضيق عبد الوهاب فتحتا عينيه و هو يفكر عميقاً .. ثم قال :" فلنخرج لندع سميرة تداويه ثم يرتاح "
و خرج عبد الوهاب مع سهى و وائل و العم طاهر .. و انزوى هو مع العم طاهر في غرفة الضيافة .. و بدأ عبد الوهاب حديثه قائلاً :" ماذا قال حبيب هذا ؟!! حُسين تَعرض للاغتصاب في طفولته ؟"
هبط العم طاهر بعينيه و همس :" أستغفرك يا رب .. الحقيقة لم تتضح و علينا غض البصر عنها حتى يخبرنا بها حُسين بنفسه و لو كان يرفض البوح بشيء فهذا حقه .. و لكن لا تزر وازرة وزر أخرى .. فحتى لو كان كلام حبيب صحيحاً .. فحُسين بريء و مظلوم في النهاية يجب علينا التعاطف معه و مساعدته"
قال عبد الوهاب :" لكن تظل هذه مسألة لا يمكن التغاضي عنها يا عم طاهر خصوصاً و أنت ترى نفسية حُسين المُتردية ناحية هذا الموضوع و أظن أننا يجب أن نساعده على تخطي هذه العقبة في حياته"
عقد العم طاهر حاجبيه و قال :" و كيف ذلك ؟ "
--
في الناحية الأخرى سميرة تضع الشاش بدقة على جبين حُسين الذي يغمض عينيه .. شعرت أنها لحظة سكون ما قبل العاصفة .. و بعد هذه السكينة ستأتي عاصفة ستفتك بالمنزل ..
نهضت ببطء بعد أن انتهت من عملها و هي تتأمل حُسين .. و فَكرت (( كم أشعر بشعورك .. ياهٍ .. كم بشع أن يحدث لك هذا و أنت شاب شبه كامل .. مُهندس ناجح و مثقف و شاب جذاب وسيم و خلوق و تعرف ربك .. كم بشع أن نكتشف مثل ها الاكتشاف .. بالرغم من أنه ماضي و انتهى إلا أنه لن يزول أبداً من ذاكرتك ..))
الجزء الثامن عشر
خرج الجميع إلى أعمالهم عدا عن حُسين ..كان يستلقي على سريره يفكر طويلاً .. و هاتفه النقال يصدح بالرنين .. كان مسؤوله في العمل .. لكنه كان متسمراً .. متجمداً .. كيف علم الجميع ؟!!
خطر بباله مقاطع من الماضي الأسود ..تذكر نفسه و هو يرفع رأسه بتعب من الوسادة و الدم يسيل من شفتيه ..ثم يلتفت لذلك الحيوان الشرس الذي ما إن أشبع شهوته حتى رمى بجسده على الأرض للنوم .. نظر له باشمئزاز .. ثم هوى برأسه على الوسادة .. مستسلماً للموت .. في تلك اللحظة كان ينتظر الموت فعلاً .. كان يرى كل شيء بلون أسود .. كل شيء أمامه بدا مثيراً للفزع و الخوف .. كل شيء كان مؤلماً .. كيف لا و هو يرى حبيب ابن خالته الذي كان يهتم به و يؤنسه .. و يدافع عنه .. حبيب الذي كان يبدو في عيني حُسين الشخص الوحيد الذي يحترم انسانيته .. الشخص الوحيد بعد والديه الذين فقدهما الذي استقبله كصديق ..
لم يكن يظن أبداً أن هذا الصديق الحنون .. سيتحول لحيوان مخيف شرس مفترس .. قد كشر عن أنيابه فجأة .. و أبرز مخالب مخيفة ..
ينهض حبيب من غفوته .. يلملم ملابسه على جسده ..ثم يهم لتفحص ابن خالته _ الشبه ميت .. جسده امتلئ بالكدمات و الخدوش .. الوسادة احتوت بقعة دم سميكة ..
هزه برعب :" حُسين !!! حُسين .. أأنت حي ؟! "
يرفع حُسين عينيه ثم ينظر لحَبيب بنظرات ميتة :" ماذا فعلت بي "
" ستنسى يا حسين "
(( ستنسى يا حُسين ؟!!! كيف ؟!! كيف و أنت أججت الذكريات و أشعلت النار الخامدة ؟!! كيف و أنت تعلن ما فعلته بي على الملأ بلا خجل .. بالطبع لن تخجل .. لأنك لم تخبرهم بأصل القصة .. لم تخبرهم أن ما جرى لي ليس إلا بسببك .. بسببك أنت يا حَبيب ..
كيف تقتلني مرتين ؟!! كيف تطيح بكرامتي و رجولتي و إنسانيتي .. مرتين ؟!!! مرة أمام نفسي .. و مرة أمام الجميع و امام سميرة ..
سميرة ..
سميرة ! لماذا بكيتِ ؟
أنا لا أستحق ..
أنا مجرد شبح .. لا يُرى ..
أنا مجرد رماد ..
أنا مجرد ركام و حطام ..يقف عليها حَبيب بتغطرس و فخر ..
غَلطة مُراهقة يا حَبيب ..

صابر المسالم 15 - 09 - 2010 20:03

رد: صوت الموت
 
مجرد فيلم إباحي شنيع ..
غير كل شيء ؟!
كيف ؟!!
كيف ؟!!
كيف تمضي الحياة ثم تقودنا الأقدار لنلتقي وجهاً لوجه .. لأرى قاتلي من جديد .. أراه بلا رحمة .. يعيد قتلي بطريقة أقسى و أعنف .. يطيحني بالقاع .. أمام الجميع .. أمام حُبي و عشقي و ملاكي ..
أمام سَميرة ؟!!
انتهى كل شيء .. و أنا أراني أنزف بقايا كرامتي و رجولتي .. أرى البنيان التي بنيتها تتحطم ..و تنهار .. و أرى سميرة .. تبكي ..
انتهى كل شيء.. فحسين منذ سنوات لم يكن إلا شبحاً .. و آن لهذا الشبح أن يختفي ..))
--
من جانب آخر فإن سميرة كانت تطل من حين لآخر على حُسين فتراه ساكن بلا حركة .. ملامح جامدة مجهولة غريبة .. وقفت تتأمله بحـزن .. و أيقنت أنه من الصَعب أن يعود حُسين كالسابق .. لم تعلم ماذا سيحدث إذ استرد حُسين طاقته .. يا ترى هل سيقتل حَبيب .. ليس مستبعد ..
حَبيب أثناء عمله وسط البراميل الكبيرة .. كان يفكر و هو يمسح عرق جبينه .. ماذا يفعل ؟ .. عض شفتيه بندم .. و هو من داخله يتمزق و يتلاشى .. و تمنى لو يقتل ألف مرة و ألا تصادف عينيه عيني حُسين مرة أخرى ..
كم شعر بالخجل من نفسه و هو يفضح فعلته الشنيعة على حِساب شرف و عرض حُسين و سمعته ..
مـن جهة أخرى وائل و في فصله الدراسي في الجامعة .. يرسم الخطوط و الأشكال في دفتره سارحاً فيما تفوه به حَبيب صباح هذا اليوم.. بالنسبة لوائل فما قاله حَبيب فضيحة و تفسيراً كاملاً لكل تصرفات حُسين .. شعر وائل بالقرف ناحية حُسين و قطع عهداً على نفسه ألا يحادث هذا الشخص و لا يكلمه ..
سُهى و هي تجوب ممرات المدرسة أثناء الفُسحة وحيدة .. راحت تفكر بأسى (( حُسين الذي أحببته .. حُسين الشاب الجامد الهادئ .. الشاب المثقف الذي جذبني بكل شيء .. كان مجرد .......... كان مجرد ضحية اغتصاب ؟!! ))
ارتعدت و شعرت بمشاعر متناقضة .. شعرت بالغرابة .. لكنها وصلت لنتيجة .. يجب توحي لحُسين أنها متعاطفة معه و مشفقة به .. فهذا هو شعورها الحالي ناحيته ..
بينما كان عبد الوهاب يعاين أوراقه في مكتبه الفاخر ثم سُرعان ما ذهب فكره ناحية ما جرى لحُسين .. تَذكره و هو ساقطٌ على عتبات الدرج و جبينه ينزف دماً ..
هزّ عبد الوهاب رأسه يميناً و شمالاً .. (( هذا ما لم أتوقعه .. لكن ما الذي يُدري حَبيب بأمر خاص و حَرج كهذا عن حُسين .. مستحيل أن يخبره .. فكيف علم بذلك ؟!! ..
حُسين !! يجب أن أقف معه و أؤازره .. ((
العم طاهر عاد للمنزل يضع الخضار في الثَلاجة .. ثم يُلقي نظرة على سميـرة التي تقف في الصالة قلقة ..نهض من مكانه و اقترب منها قائلاً :" سميرة بُنيتي ما حال حُسين ؟ "
زَفرت سميرة و رمت بجسدها على المقعد قائلة :" لا أدري .. لم ينطق بأي حرف .. و أنا تجنبت دخول غرفته .. "
تنهد العم طاهر و جلس على المقعد المجاور قائلاً :" حال ما تصنعين له الغداء أتمنى أن توصلي الأطباق بنفسك.. اهتمي به أكثر و حسسيه أن ما سمعناه عنه لم يؤثر على علاقتنا به "
هزّت سَميرة رأسها مؤيدة و نهضت لصنع الغداء ..
وقف العم طاهر يفكر ملياً و هو يستغفر ربه .. حُسين هو الشاب الذي يهتم بأمره دائماً .. مُعجباً بشخصيته الغامضة الهادئة .. مُعجباً بطريقة تفكيره .. لم يكن يتوقع أبداً أن هذا الفتى المثقف الذي يعمل على الحاسوب على برنامج معقد ينم على ذكاء عالي .. الذي ينفرد بشخصية مميزة لا تتأثر بمن حولها .. لم يكن يتوقعه قد سقط في حفرة من حفر أبناء الحَرام .. ذلك لم يزد العم طاهر إلا إعجاباً من قوة هذا الشخص ..
--
بعد طعام الغداء .. جلس عبد الوهاب متربصاً لحَبيب .. ناداه قبل أن يصعد لغرفته :" حَبيب تعال "
ازدرد حَبيب ريقه بارتباك ثم استدار لعبد الوهاب مصطنعاً ابتسامة :" نعم عبد الوهاب أردت شيئاً "
أشار له باصبعه :" تَعال اجلس أكلمك "
سَميرة كانت تغسل الأواني و هي تسترق السَمع لهما .. حتى سَمعت حَبيب ..
" ها قد جلست .. ماذا لديك عبد الوهاب "
رشقه عبد الوَهاب بنظرات حادة لاهبة .. ثم همس :" كيف علمت بما جرى لحُسين ؟!! "
ازدرد حَبيب ريقه ثم قال بهمس :" هو .. هو كان يهذي أثناء حمّته التي أصابته منذ فترة "
رفع عبد الوهاب حاجبيه بدَهشة ثم قال :"حمته .. فهمت ..... فكرت أن نستدعي أخوته لهنا .. ما رأيك ؟ "
عقد حبيب حاجبيه و صاح :" أية أخوة ؟ حُسين لا يملك أخوة و هو يتيم منذ الصِغر”
خرجت سميرة من المَطبخ مُسرعة و وقفت أمام حبيب قائلة بانفعال :" و ما يدريك أنت ؟ "
ارتبك حَبيب و هو محتار فيما يقول فباغته عبد الوهاب قائلاً :" يبدو أنك تعرف الكثير عن حُسين رغم أنكما من ألد الأعداء .. ألا يبدو هذا أمراً غريباً ؟"
طأطأ حَبيب رأسه و قالت سَميرة بقهرٍ :"لا تقل أنك سمعته يقول ذلك أثناء الحمّة أيضاً .... أثناء حمة حُسين .. لم ألحظ عليه أي هذيان أو ثرثرة .. و كان يغط تحت تأثير المُخدر فكيف أنت سمعته يقول ما جرى ؟ و كيف للمرء أن يهذي فيكشف عن ذِكرى كهذه ؟ هذا أمـر ........."
قاطعها حَبيب بغيظ :" سَميرة ما قصدكِ ؟"
انفعلت سميرة و هي توجه له سبابتها و صاحت :" أقصد أنك تفتري كذباً على هذا الرجل المسكين ..و تظل تطعن في شرفه و رجولته و لا رادع لك "
نهض عبد الوهاب و قال :" سَميرة اهدئي .."
ثم التفت لحَبيب الذي يغوص بافكاره .. و قال بنظرة حادة :" حَبيب .. فلنقل أنك صادق .. يا ترى ما هدفك من تشويه سمعة حُسين .. هو شاب منزوي على نفسه لم يضرك بشيء .."
عض حبيب شفتيه ثم قال منفعلاً :"لم أقصد تشويه سمعته .. أني نادم على إذاعة أمر كهذا .. فحُسين له مكانة كبيرة بقلبي .. حُسين بالذات سأظل أحاول أكسب وده بشتى الطرق "
رفعت سميرة حاجبيها باستنكار ثم قالت :" و لماذا حُسين بالذات ؟! أنتما لم تتعرفا على بعضكما البعض إلا منذ فترة وجيزة و لا أظن هذه الفترة كافية لتكوين علاقة قوية بينك و بينه .. و أنتما بالذات علاقتكما متوترة كثيراً .. فما هدفك من كسب ود حُسين .. "
ازدرد حبيب ريقه فصاحت سميرة مغتاظة :" أنت تناقض نفسك يا حبيب و تصرفاتك باتت غريبة ..و صرت واثقة أنك تنوي إيذاء ذلك الشاب المسكين الذي حطمته نهائياً بتلك الفضيحة التي أعلنتها للملأ.. "
زفر حَبيب قائلاً :" مُخطئة يا حِلوة .. لو كنتُ أريد إيذاءه لما استدعيت طبيباً نفسياً سيأتي عصر هذا اليوم لرؤية حُسين .. و سوف تكون أجرته على حِسابي الخاص "
راقب عبد الوهاب سَميرة و هي تثور :" من قال لك أن تستدعي طبيباً ؟ هل تريد قتل حُسين بتصرفاتك المغيضة ؟ لا أظن أن حُسين سيقبل بهذا الطبيب و لن يقبل أيضاً أن تكون أنت من يدفع الأجرة .. رجاءاً ..لا تتدخل في شؤون حُسين "
نظر لها حَبيب بنظرة ذات معنى و ابتسم ابتسامة صفراء قائلاً :" لا أتدخل في شؤون حُسين ؟! و ماذا يعني لك حسين لكي تتعصبي لأمره هكذا؟"
ارتبكت سميرة لكنها قالت على الفور:" حسين واحد من مستأجريني و أنا أعلم جيداً أن شخصية حسين لا تحب شفقة من أحد .. "
قال عبد الوهاب :" سميرة .. لماذا ترفضين فكرة مجيء الطبيب.. حُسين وصل لقمة أحزانه و يجب أن نُخرجه من هذا العالم الأسود الذي يعيشه .. أما بالنسبة لأجرة الطبيب فيمكنك أنت دفع الأجرة ريثما يستعيد حُسين عافيته و يعيد لك الأموال "
و نظر لحَبيب قائلاً بحدة :" و لا داعي لأن تحاول أن تبرز بطولاتك .. و لو كنت شهماً لما فضحت الشاب و نشرت أمره .."
شعر حبيب بغصة فنهض من فوره متجهاً ناحية الحديقة ..
--
بينما ينظر العم طاهر بصدمة لوائل و هو يقف على الإرجوحة في الحَديقة .. همس له :
" وائل ؟!!!! "
اقترب حَبيب منهما فقال وائل ببساطة:" كما قلت لك عماه .. اشمئزيت من هذا الرجل و لا أدري ما التصرف الذي ستتصرفونه .. حَبيب وعدني أنه سيتم نقله لعيادة نفسية.. فهل هذا صحيح "
هزّ حَبيب رأسه :" صحيح"
اقترب العم طاهر من وائل مصعوقاً ثم همس :" بربك .... هل تشمئز منه و هو بريء لم يذنب ؟؟ عليك الاشمئزاز من ابن الحَرام الذي فعل فعلته "
شعر حَبيب بوغز مؤلم بصدره .. و هو يسمع العم طاهر يكمل حديثه :
" عَجبي .. من هذا الشخص القذر الدنيء .. كيف يفعل ما فعل بطفل أو مراهق .. أي قلبٍ يملك .. اللهم احشره في نار جهنم .. اللهم ابعدنا عن أمثاله .. اللهم خلّص الأرض من شره .. اللهم أنزل غضبك و عقابك عليه في الدنيا قبل الآخرة .. "
وضع حبيب يده على رقبته و هو يشعر بالاختناق من دعوات العم طاهر التي تأتي كالقنابل على رأسه ..و يظل العم طاهر يتمم حديثه بأسى :
" حُسين شاب شريف طاهر ..لم أرَ منه انحرافاً أو ما شابه .. يجب ألا نحمله ذنباً لم يقترفه .. اللهم افضح أمر ذلك الشخص الحقير أمام جميع الخلق .. ليكون عبرة لمن لم يعتبر "
ازدادت ضربات قلب حَبيب وفضّل الابتعاد قبل أن يفتضح أمره فعلاً ..
الجزء التاسع عشر
فَتح حُسين عينيه ببطء.. على شخصٍ غريب يفتح الباب ..و يقترب منه راسماً على وجهه ابتسامة عريضة ..تَنهد حُسين و أيقن أنه طبيب نفسي أرسله حَبيب .. حَبيب .. يقتل القتيل و يمشي بجنازته ..
باشر الطبيب بحديثه المرح :" أنت المهندس حسين أليس كذلك .. جئت للتعرف عليك "
تنهد حُسين و هو يعتدل في جلسته ... ثم هزّ رأسه بهدوء و هو يرى الطبيب يجلس على مقربة و يقول مسرعاً :
" أنا الدكتور محمد .. "
نظر له حُسين بنظرة ميتة ثم همس :" حَبيب أرسلك أليس كذلك ؟ "
حاول الطبيب أن يبتسم :" لا يهم .. المُهم أن تخبرني بما جرى لك "
زَفر حُسين بضيق و هو يفكر في بشاعة ذلك الانسان الذي خدع الجميع بابتسامته ..
تأمل حُسين الطبيب و هو يدون يتحدث بنبرة لطيفة .. و هو يفكر طويلاً .. (( لم يعد هنالك مكان لك يا حُسين ..منزل سميرة بما يحوي يرفضك .. أهرب بعيداً .. علك تنسى ما جرى لك .. علك تنسى أوجاع الماضي و دموع سميرة .. علك تنسى ذلك الملاك الجميل و هو يتنقل في أرجاء هذا المنزل .. علك تنسى حُبك الأبدي .. الأول و الأخير .. علك تنسى سَميرة .. ))
--
خرج الطَبيب من المنزل بعد أن أخبر سميرة أن حُسين لا يعاني مرضاً نفسيا و لكنها مجرد نوبة غضب ستزول مع الأيام ..فَكرت أن تذهب لتلقي عليه نظرة.. و حاولت أن تبدو لطيفة .. نهضت من مكانها و هي تضبط الخِمار على رأسها .. و اتجهت لغرفته مرتبكة .. طرقت الباب فجاءها صوته :" تَفضل "
فَتحت الباب ببطء و نظرت له حيث وضع حقيبة صغيرة على السرير .. نظر لها لفترة ..و شعر باشتياق عامر لها و لابتسامتها اللَطيفة .. لكن نيران الفَضيحة كانت حاجزاً لكل شيء .. فسرعان ما شعر بالحرج و راح يشغل نفسه بتجميع الملابس و تكديسها في الحقيبة عشوائياً..
أسرعت ناحيته قائلة:"إلى أين يا حُسين؟"
نظر لها بنظرات ذابلة ثم عاد يجمع الملابس قائلاً بهمس :"سأنتقل للعيش في منزل أحد أصدقائي .. لمدة اسبوعين "
تأملته بأسى قائلة :" إذاً .. ستترك المنزل ؟ "
تأملها حُسين طويلاً و هو يفكر بضيق .. شعر بشيء يمنعه من النظر لها .. الحَرج .. الحَرج من ذلك الأمر الذي أذيع عنه ..
صمت لبرهة و هو ينظر للملابس ثم عاد ينظر لها برفق :" نعم .. مدة اسبوعين لا أكثر"
ابتسمت سميرة و هي ترتب المَلابس قائلة بمَرح :"حسناً و لكن لا تنسانا يا حُسين .. سنشتاق لك كثيراً "
تأملها طويلاً .... كانت هي بسِحرها تفك كيمياء نفسه المُعقدة .. وضعت هي إحدى بيجاماته القِطنية في الحقيبة مبتسمة :" آآ .. يمكنك إبقاء ملابسك التي تحتاج للغسيل لأغسلها ثم أرسلها حيث المكان الذي ستقطن فيه "
انتبهت له حيث كان يتأملها مطولاً ثم ابتسم : "أشكركِ "
فكرت طويلاً و ترددت قبل أن تقول :" آه..بالنِسبة لمَا قاله حَبيب عنك "
أبعد ناظريه عنها و لم يحب أبداً أن ينفتح ذلك الموضوع الحَرج مجدداً ..لم يكن يريد أن يسمع اسم حبيب و لا يتذكر شيئاً مما جرى .. بينما أكملت سَميرة : هل كان صحيحاً ؟"
و رفعت ناظريها ناحية وجه حُسين المخطوف لونه ..تأملته و هو يعبث بهاتفه بارتباك ثم رمقها لبرهة ..همس :" نعم "
ارتبكت هي الأخرى لتوقعاتها السابقة بأنه بريء من افتراءات حبيب .. صمت الاثنان بحَرج و ضيق .. و برزت حبات العرق اللؤلؤية على جبين حُسين ..شغل نفسه بتجميع باقي الأشياء التي يحتاجها ..و سميرة تُنكس رأسها مُحرجة ..
نظرت له بتعاطف و تمنت لو يخبرها بكل شيء ..بكل التفاصيل المؤلمة .. عله يفرغ قلبه من كل هذه الأحزان التي حبسها فيه ..
--
مَضى حُسين ناحيّة سَيارته حاملاً حقيبته دون أن يودع أحداً من الذين كانوا يقفون يتأملونه و هو يصعد سيارته ، حَبيب فضّل ألا يظهر أمام حُسين فتنفجر براكين جديدة .. استند حَبيب على الشُرفة و هو يتأمل حُسين .. تَنهد بضيق و هو يفكر (( ياه !! كم سأفتقدك يا إبن خالتي الغالي ))
رفع حُسين رأسه و التفت لهم حيث يرمقونه .. نظر لسميرة و رأى دموعاً تترقرق في عينيها .. كم آلمه ذلك .. شغّل السيارة ثـــم رفع يده ببطء مودعاً إياهم ..
--
عادت سُهى لغرفتها كئيبة .. ترامت على سريرها و هي تفكر في حسين (( رباه .. كم أحبك ..بالفعل تشغل فِكري.. و لا أستطيع أن أستوعب فكرة أن تذهب هكذا حتى لو كانوا مجرد اسبوعين ..أحاول أن أكّذب الواقع و أقول أن ماضيك ليس كما قاله حَبيب .. لا .. ليتني لم أعلم بهذه الحَقيقة عنك .. لكنك رائع رغم كل شيء .. رغم أنف حَبيب الذي يغار منك ..))
ظلّت سُهى تفكر في حُسين طويلاً ..تعاني لوعة الحُب و الفراق ..بينما سَميرة تغسل الأواني ببطء .. فكرها طار ناحية مملكته .. حُسين ..
(( سَميرة ما بك يا مجنونة !!! لطالما اهتميت لأمر مستأجريكِ حتى يغادرون و ما إن يغادرون فأنك تبكين قليلاً ثم تعودين كالسابق ..لأننا نعيش في هذه الدنيا .. رحيل و رحيل و رحيل .. و فِراق ..و قد اعتدت فَراق الأحبة .. لكن .. لماذا لستُ متصورة أن غرفة حُسين ستكون خالية منذ هذه اللحظة ..
لاسبوعين فقط يا سَميرة لماذا هذا الجنون ؟!!
من هو حُسين أصلاً .. ماذا يعني لي ؟!!
أُحبه ؟!! ........... نعم أحبه كثيراً و هذه الحَقيقة التي أهرب منها .. و لماذا أهرب منها ؟!! أهرب من الحقائق التي تلحقها .. أهرب من حقيقة حُسين و ماضيه البشع ؟!!
كيف أقنع قلبي أن لا ذنب له بذلك ؟!!!
هل كان رحيل حُسين من صالح قلبي المجنون ؟!! لا .. ربما يموت جنوناً ..
حَبيب !!!! حَبيب أيها البَغيض لستُ أفهم لمَ تكره حُسيناً .. و تظهر لنا أنك تحبه و تعتني به .. ينتابني شعور غريب عن علاقتكما و صرت أعتقد أنكما تعرفان بعضكما البَعض قبل أن تلتقيا في منزلي ..
ما القِصة ؟!
الذي أعرفه أني كرهتكَ يا حَبيب أيمّا كره ..
ربما فَضحت أنت حُسيْناً لتنفرني منه ..صرت متأكدة أنك ماكر تسعى لامتلاكي .. و لكن لَست أنت يا حَبيب من سيحظى بقلبي ..))
--
" ما بك يا صاح ؟! " قال وائل ذلك و هو يفتح غرفة حبيب فيراه يجلس قرب الشرفة بحزن .. بالكاد يرد بتنهيدة :" أني نادم بشأن حُسين .. سوف نفتقده "
اقترب وائل و هو يلوك بشفتيه بضجر ثم قال :" دعه يذهب ليعالج نفسه قليلاً.. لو كنت أعلم بحقيقته لما مكثت معه دقيقة .. و أخيراً رحل هذا النجس.. لكنهما اسبوعان فقط "
نظر له حَبيب بضيق و همس :" نجس ؟!! "
هزّ الآخر رأسه بتأكيد :" نعم نجس و فاعل حرام و شاذ أيضاً"
تألم حبيب ثم قال و هو يشيح بوجهه :" لا تقل ذلك عنه أرجوك"
هزّ وائل كتفيه بلا اكتراث و أكمل :" و ماذا أقول عن شخص رضى بأن تمارس الرذيلة فيه .. كم كرهته و كرهت النظر له و لا أدري لماذا كان يتصرف بغرور و تعجرف حتى خُلت أنه ابن عائلة و ابن أصل و فصل لكن ظهر أنه .................."
قاطعه حبيب بغضب :" وائل أنت لا تعلم حقيقة ما جرى و لذا لا تتكلم بهذه الطريقة "
أردف الآخر :" و لماذا تقول ذلك و أنت الذي أخبرتنا بفضيحته ، أنك تتقلب على بطنك و ظهرك و تناقض نفسك فتارة تطعن في شرف حُسين و أخلاقه و تارة تهتم له و تراعيه كما لو كان يقرب لك "
ارتعد حَبيب و هو يسمع وائل يقول مبتسماً :" على فكرة يا حبيب ثمة شبه خفي بينك و بينه "
حاول حبيب أن يبدو مندهشاً بينما شعر بوغز بصدره و قال مرتبكاً :" حُسين ؟ و ما الشبه ؟ ليس هناك أدنى شبه "
ضحك وائل ثم قال :"و لمَ الانفعال ؟ نعم أنكما مختلفان و هو أوسم منك بكثير .. لكني ألتمس شبهاً خفياً لا يمكن تحديده"
زفر حَبيب قلقاً .. كيف لاحظ وائل هذا الشبه ..رغم الاختلافات الشكلية و الخلقية إلا أن صلة القرابة تترك أثراً و لو كان طفيفاً ..
--
ترجل حُسين من سيارته و صديقه ( عمر ) يقف على بوابة العمارة مبتسماً ببشاشة .. كان شاباً طويل القامة أسمر البشرة حليق الرأس ..باشر بحمل الحقيبة و هو يخاطب حُسين :" أهلاً أهلاً .. تفضل يا أبا علي .. حياك الله أيها الصديق "
ابتسم حُسين بالكاد و هو يقفل السيارة ثم قال :" أتمنى ألا أكون ضيفاً ثقيلاً يا عمر "
صاح خليل بانفعال :" ماذا تقول ؟!! أنت أخ عزيز يا حُسين لم تعرف مكانتك بعد "
خليل هو شاب أصيل بالفعل .. رغم أنه يخالف حُسين من المعتقدات و المذاهب الدينية .. إلا أن ذلك لم يمنعه من مصادقة حُسين و التعرف عليه عن قرب .. عمر كان مثالاً للانسان النظيف السوي ..الطيب الواسع القلب.. بالرغم من أنه واثق من المذهب الذي يتبعه و متمسك به و ملتزم به .. إلا أنه تعلم أن الاختلافات في المذاهب طبيعية و لا يجب أن تكون سبباً لتفرقة المسلمين ..
كان مُحباً للخير لجميع أصدقاءه و أهله و كل من يعرفهم .. قلبه واسع يحوي الجميع .. له ابتسامة طيبة تنم عن صفاء و طمأنينة .. له علاقة وطيدة بالله عز و جل .. إنسان ببساطة نادر ..
الله سبحانه و تعالى لم يمنح حُسين إلا القليل من الأصدقاء و لكنهم بالفعل يستحقون مسمى الأصدقاء .. لأرواحهم النقية و نياتهم الصافية ..
لكن بالرغم من ذلك فإن حُسيناً لم يطلع أحد منهم على الماضي المحرج المؤلم .. بوجهه الدامي الشنيع ..
--
تمر الأيام ......
عبد الوهاب خرج بسيارته يجول الطرق، أوقف سيارته لبرهة أمام منزل ما ...... فاضت به الذِكريات و هو ينظر للمنزل كأنه ينظر لصاحبة المنزل .. في هذه اللحظة عاد للخلف سنوات و سنوات .. وسط صخب ابنيه الذين يلهوان في المقاعد الخلفية .. عاد بذاكرته لتلك الفتاة التي عاش معها أجمل فترات عمره .. تزوجا بعد قصة حُب طويلة جميلة مزينة بزهور الياسمين و الاقحوان ..
عاشا أيام الزمهرير القارصة .. بحب عنيف غريب .. بدل أن يجمعهما .. فرقهما في النّهاية .. تزوجا و أنجبا ثم افترقا .. بالنسبة له .. ظنها تغيرت و صارت أكثر جفاءاً .. كبرياؤه منعه من التحمل أن تطالبه بالطلاق في أي وقت و حين .. لم يفهم أنهما لم تكن إلا فتاة مُدللة تطمع بمزيد من الدلال ..
طلقها !! .. و رأى الدموع تترقرق بعينيها .. كأنها لم تتصور أن دلالها سيقودها إلى الجحيم .. غادر تاركاً إياها تذوب عشقاً له .. لكن كليهما أقنع نفسه أنه قادر على العيش دون الآخر و فعلاً كان ذلك ممكناً لكـــن .... لكنه افتقدها ..و هي لا تزال تبكي فراقه ..
أمر الطفلين زاد الطين بِلة ..فما أقسى أن يتشتت الأبناء وسط أبوين كلاهما يعيش حياة أخرى ..
تأمل المنزل لبرهة و لونه المميز..كانت ذواقة لذلك اعتمد عليها في تأثيث بيتهما و كيفية صِباغتِه .كانت مبدعة و راقية و لذلك عشقها ..
لكـــن ذلك المنزل الذي عَشقه كما عَشقه الآن لها وحدها فبعد الطلاق أخذ الطفلين و ترك لها المنزل و ابتعد ..زفر عبد الوهّاب و هو يتذكرها و ودّ لو تعود له بكل تفاصيلها الجميلة التي كان يحبها فيها .. لكـــن ..
كيف؟! مستحيل ..
--
" اهدئي يا سُهى "
زمجرت سُهى التي تحوّلت للبؤة مفترسة في وجه حَبيب غير مُكترثة بالعم طاهر :
" أنت شخص مقيت .. حرباء و حقود و منحط .."
رشقها حَبيب بنظرة لاهبة ثم قال :" أنا لم أقصدكِ بحديثي ألا تفهمين ؟"
صرخت سُهى :" بلى تقصدني .. أنا حرة .. لو كنت سأترك أهلي للأبد أنا حرة أفهمت ؟!! لكني أعلم أنك شخص مقيت تحب أن تؤذي الناس كما فعلت بحُسين "
ابتسم حبيب بسخرية :" قولي ذلك منذ البداية يا صَغيرة ..هذا الغضب أصله لأجل معشوقك حُسين "
نظرت سَميرة لسُهى بمشاعر غريبة فصاحت سُهى :" نعم أعشقه ، لن أخفي ذلك لأني لست كاذبة و مخادعة مثلك .. لست حقودة و تحب أذية الناس خلف قناع الطيبة .. سأظل أقف في صف حُسين الذي ظلمته "
نظر لهما العم طاهر و انسحب بهدوء و صاح وائل:" ألن ننتهي من سيرة حُسين هذا ؟! منذ أن دخلت لهذا المنزل الجميع يتحدث عن حُسين"
سميرة كانت تُحدق بسُهى و هي تفكر :" كنت أظنها تلهو .. لكن على ما يبدو حبها لحُسين عميق جداً لم تبدده الفَضيحة .. رباه !!! ألم تحب إلا حُسين .. "
الجزء العِشرين و الأخير
تأملت سَميرة عبد الوهّاب و هو يجمع ملابسه في حقيبته .. عقدت حاجبيها بحدة و اقتربت منه قائلة :
" عبد الوَهاب إلى أين ؟!! "
رفع رأسه و نظر لها لبرهة ثم ابتسم :" سأحاول أن أعود لزوجتي "
انفرج فمها بفرحة :" أحقاً ؟!! مَبروك مُقدماً .. "
و ضحكت بمَرح :" ربـاه أنه لأمر يُسعدني بحق .. أتمنى لكما كل خير "
انتبه لها و هي تمسح دموعها بتأثر :" إذاً ستغادر للأبد ؟!"
ابتسم ابتسامة عريضة و قال :" سميرة .. أنا سُعدت بمعرفتك طول هذه الفترة .. و سامحيني إذ بدر مني أي سوء .. تعلمت منكِ معنى التنازل و التواضع .. أنني بحاجة للتواضع قليلاً لكَسب زوجتي .. أشكركِ "
تأملته طويلاً و هو يجر حقائبه و من حوله طفليه يحومان ..
--
راحت تكنس الطابق العِلوي بعد أن غادر عَبد الوهاب .. بعد وِداع حميم مليء بالدِموع .. انتبهت على اقتراب حَبيب منها .. قد وقف مطولاً لم يتجرأ على البِدء بالحَديث ..
رشقته بنظرة لاهبة ثم عادت لعملها .. شعر بغصّة .. اقترب منها قليلاً ثم قال بهمس :
" هل تَكرهينني يا سَميرة ؟! "
تَنهد بضيق و هو يراها صامتة و هرع لغرفته مسرعاً ..
تَنهدت سميرة بارتياح ثم انتبهت على رنين الهاتف من الردهة السُفلية .. ركضت مسرعة تتخطى الدرجات للوصول للهاتف .. رفعت السماعة :" آلو "
ظنت أنه حُسين .. لكن .. للأسف لم يكن هو .. سمعت صوت رجل كهل :" مَرحباً .. هنا نُزل أليس كذلك ؟"
هزّت رأسها قائلة :" نعم سيدي
هل تريد استئجار غرفة ؟"
" لا .. أريد السؤال عن مستئجرة لديكم تُدعى سُهى .. هل لا تزال موجودة ؟! "
نظرت سَميرة لغرفة سُهى ثم قالت :" نعم .. من تكون ؟"
" أنا والدها "
رفعت سَميرة حاجبيها بدَهشة ..:" والدِها ؟!!!!!!! "
" نَعم .. سألت عنها في المَدرسة التي تَدرس بها أخبروني أنها سجلت رقم هذا النُزل في استمارتها .. بربك أريد سَماع صوتها "
شعرت سَميرة بالشفقة ناحية هذا الرجل المسكين فقالت :" لَحظة من فضلك .. سأناديها"
أسرعت لغرفة تلك الفتاة صائحة بها :" سُهى والدك يريدك على الهاتف "
استدارت سُهى لسميرة و هي تُمسك بالمشط و فتحت عينيها بصدمة :" والدي ؟!!!! "
--
تأمل العم طاهر سُهى و هي تجهش بالبكاء ممسكة بسماعة الهاتف :
" أبي .. اشتقت إليك .. هل صحتك على ما يرام .. لا تقلق .. أنا لم أخطا بشيء .. حاولت أن اركز على دراستي .. لم ألهو يا أبتي أبداً .. سامحني .. اشتقت إليك "
ابتسمت سَميرة و هي تتأملها .. و شعرت بالاطمئنان على هذه الفتاة .. التي بالكاد تتفهم معاني الحياة الكثيرة ..و اطمئنت أكثر و هي ترى سُهى تسرع لجمع ملابسها في حقيبتها للمغادرة ..
سُهى .. وجدت انها يجب أن تعود لذلك المأوى .. هروباً من الذئاب التي تتستر في الليالي الحالكة .. طلال لم يكن إلا ذئبا أسوداً انقض على فريسته و التهم القليل منها ثم مضى ببساطة تاركاً إياها تنزف بجروحها..
سُهى كانت تتحرك مع مشاعرها المتدافعة .. فما إن دفعتها مشاعرها إلى أبيها .. إلا و قد جمعت ملابسها للرحيل ناسية الحُب الأخير .. حُسين ..
نسته تماماً .. نست انها تترقب عودته .. نست كل شيء .. و ركضت نحو ذلك الحضن الأبدي .. لم تكن إلا مُراهقة .. مُراهقة و حسب ..
--
بعد يومين من فراق سُهى .. تُصدم سَميرة بفراق شخص جديد غير متوقع أبداً ..فتحت غرفة حَبيب للتنظيف ظناً منها أنه ذهب للعمل ..اقتربت مذهولة و هي ترى الخزانة مفتوحة و فارغة ..
العطور و المزيلات اختفت من أمام المرآة .. اقتربت لترى ورقة مطوية جيداً ملقاة على السرير .. انتشلتها مُسرعة و بدأت تنهب الحُروف نهباً ..
" مَعشوقتي سَميرة .. لأني أهواكِ .. فأنا خارج دون رجعة .. مثلما غادر غيري .. فأنا الذي يجب أن يغادر .. أنا المجرم هنا .. أنا الذي اعتديت على شرف ابن خالتي حُسين .. و حطمت حياته .. أنا الذي فضحته و زدته كآبة .. أنا الذي أحببتك بكل جوارحي و صعب أن أراك تكرهينني ..
سَامحيني يا جوهرة .. سامحيني .."
اهتزت حدقتا سميرة و هي تتأمل الحروف .. عقدت حاجبيها باستنكار !!!!! ثم همست :
" ابن خالته و هو الذي ........ "
نبض قلبها بشدة و انهارت باكية ..
--
وائل وقف لبرهة أمام المرآة .. تلمس وجهه بضيق .. ثم باشر بإزالة الحلق من لحمه .. انتفض متألماً ..لكنه تأمل نفسه جيداً بعد أن أزال كل الخُردة من وجهه و من رقبته السلاسل و الأساور التي تلف يديه .. فكّر لبرهة في السبب المنطقي من تشويه نفسه بهذا الشكل ..و وجد أنه لم يفعل ذلك إلا تقليداً ...
فما أبشع أن نشذ عن قيمنا و أخلاقنا لأجل تقليد أمة غريبة ..
..
راح العم طاهر ينسق المزروعات في الحديقة بسعادة غامرة .. انتبه على سيارة مُقبلة توقفت أمام المنزل مباشرة ترجل منها رجل .. نهض طاهر مصدوماً بعد أن استوثق هويته.. و صَرخ :" حُسيـــــــن ؟!! "
أزال حُسين النظارة السوداء من عينيه و رمق طاهر بابتسامة فرح .. فأقبل طاهر مُسرعاً .. تعانقا بقوة .. و قال العم طاهر بحماس :" حُسين لكَم اشتقت لك يا وَلدي .. مضت ثلاثة شهور و أنت منقطع عنا "
شع وجه حُسين بابتسامة تنم راحة كبيرة و قال :" أنا أيضاً اشتقت لكم كثيراً .. "
--
تسّمرت سميرة و هي تستمع لصوت مألوف للغاية على باب المنزل الرئيسي ..لا شبيه لصوته .. أسرعت خارجة من المَطبخ لترى حُسيــــن !!!
تلاقت أنظارهما و توقف الزمن لبرهة .. تأملها طويلاً .. سَميرة هي .. هي .. لم تتغير .. ذات الابتسامة اللطيفة ..
حانت منه ابتسامة و هو يتأملها بخمارها الزهري .. و عينيها الفيروزتين تلتمعان بدموع الفَرحة .. صاحت :
" حُسيـــــــــــن ؟!!! "
اقترب مُبتسماً و همس :" سَميرة .. مضى وقت طويل "
--
في مكان آخر يعج بالزغاريد الفَرحة .. صَباح تضحك بفرح و هي ترى طفلها يرقص بطريقة طريفة على المَسرح يشاركه عدد من الأطفال ..ثم تلتفت لسُهى قائلة :" ياه .. من كان يتوقع أن حُسين يتزوج سَميرة "
و غمزت لها :" يا ترى هل تغارين ؟!! "
لكزتها سُهى بحدة ثم قالت بدلال و هي تنسق شعرها المصفف و فستانها الطويل الأزرق :
" كفى لا تقولي هذا .. لا أغار أبداً .. لأن تلك مجرد مشاعر سخيفة لا أساس لها ..علي الانتباه لدراستي القادمة في الجَامعة "
نظرت لها صباح بابتسامة ذات معنى ثم همست :" أها .. أصبحتِ عاقلة إذاً .. و كيف حال أبيك ؟"
ابتسمت سُهى :" بخيــر .. لم أكن أظنه سيسامحني .. كم هو حنون "
--
في جانب آخر و في قاعة أخرى خاصة بالذكور .. ابتسم حُسين و هو يربت على كتف وائل :
" تغيرت كثيراً .."
ابتسم وائل باعتزاز .. و أقبل عبد الوهّاب بطفليه قائلاً :" حُسين .. سَميرة أمانة برقبتك "
ابتسم حُسين لكن ابتسامته تلاشت فوراً .. و هو يرى شخص ما يقترب .. يتخطى الحضور .. يقترب !.. يقترب ..
تتضح ملامحه .. يرفع عينيه .. يبتسم .. تتضح أسنانه ..
يقف قريباً جداً .. و الجميع يبتعد ..
تأمله حُسين ثم ابتلع ريقه .. اهتزت حدقتا عينيه بارتباك ..و مد أصابعه ليرخي ربطة عُنقه ..حتى همس بضيٌق :" حَـ .. حَبيب "
وقف حبيب بأسى و هبطت عينيه بخجل .. تردد فيما سيقوله .. لكنـه رفع عينيه بجرأة مجدداً مع نظرات الجميع و قلق طاهر ..
رمق حُسين طويلاً و أمامه ينطلق قطار الذكريات ناثراً رماد الحُزن .. تذكر حَبيب الماضي المشوه و البراءة المُدنسة .. تذكر ذلك الفتى الذي لم يبلغ الخامسة عشر ربيعاً .. منكباً على وجهه فوق الوسادة الملطخة بالدم .. و على وجهه البريء علامات عنف شديد و في عينيه موت ..
نعم موت ..
لطالما عاش حبيب على جثمان حُسين ..و حان الوقت لاحياء هذا الجثمان من جديد ..
اعتنق حبيب حُسين بقوة .. بينما أغمض الآخر عينيه بسكون ..
صاح حَبيب مجهشاً ببكاء مؤثر :" حُسيــــــن .. اعذرني"
حوّل العم طاهر نظرات لائمة لحَبيب و كان عبد الوهاب يتوقع من حُسين ردة فعل عصبية للغاية .. فزمن الاعتذار ولى ..
تلفت حَبيب حوله ثم همس بأذن ابن خالته بارتباك :" حُسين .. أخبرت سَميرة .. أخبرت سَميرة أنني المذنب .. أرجوك حُسين سامحني و استر على ذنبي .."
رفع حُسين عينيه السوداوتين ناحية حَبيب ..ثم همس :" لماذا؟!! .. لماذا أخبرتها ؟! "
هبط حَبيب بعينيه ثم همس :"لأنها لك الآن للأبد .. و يجب أن أنساها و قبل ذلك .. يجب أن تعرف الحَقيقة كاملة .."
اشاح حُسين بوجهه بضيق فانفعل حبيب :" حُسين ألست راضياً "
زفر حُسين و هو يتأمل الحضور .. حبات العرق تتلألأ على جبينه الأبيض .. راح حَبيب يتأمل ابن خالته مطولاً و أيقن أنه لا فائدة ..
تنهد حَبيب هامساً :" لا بأس .. سأغادر الآن حتى لو لم تسامحني .. و .. و لكن .. "
و رفع رأسه بابتسامة عريضة و قال و هو يحارب عبراته :" مبروك لكما .. أنكما تناسبان بعضكما البعض .. اهتم بها حُسين "
و استدار حَبيب يجر أذيال الخيبة ..ازدحمت بباله الأفكار البائسة .. لم يجد شيئاً يستحق الابتسامة .. الدُنيا اسودت أمامه .. سمع صوت الموت المرعب يتكرر في أذنه يكاد يصمها ..
تسلل وميض ما لقلبه بضوء نوارني زاهي مع صوت قادم من بعيد ..أشبه بالحُلم ..
استدار حبيب و هو يقف على باب القاعة الرئيسي إلى اتجاه الصوت .. كان حُسين ..
" حَبـــــــيب "
لم يصدق حَبيب حُسيناً و هو يلوح بيده من بعيد بابتسامة نقية :" حَبيب .. سَامحتك "
--
و في النهاية فإن صوت الموت قادم .. يتسلسل بين الأزقة و الممرات الضيقة .. يأتى من النافذة و ينحشر تحت غطاء السرير .. صوت مرعب كعاصفة من الجن .. كزوبعة مريعة قادمة من صحراء ماضينا ..
لكنه يتحول لصوت شادي إذاً ما أردنا ذلك ..
تمت

صابر المسالم 15 - 09 - 2010 20:06

رد: صوت الموت
 
انتظروني في حينما تعزف قيثارة الصمت ألحانها

mamoon 17 - 09 - 2010 04:35

رد: صوت الموت
 
نشكرك أخي وننطر جديدك
تحياتي

وليد محمد محمود الشيخ 23 - 11 - 2010 15:56

رد: صوت الموت
 
رائعة جداااااااااااااااااا


الساعة الآن 08:38.

Powered by vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
ترقية وتطوير: مجموعة الدعم العربى
جميع الحقوق محفوظه لمدينة الاحلام ©


SEO by vBSEO