|
|
#1
| |||||||
| |||||||
قواعد تفسير القران الكريم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً أما بعد فهذه أصول وقواعد في تفسير القرآن الكريم، جليلة المقدار، عظيمة النفع، تعين قارئها ومتأملها على فهم كلام الله، والاهتداء به، ومخبرها أجل من وصفها . فإنها تفتح للعبد من طرق التفسير، ومنهاج الفهم عن الله: ما يغني عن كثير من التفاسير الخالية من هذه البحوث النافعة . أرجو الله وأسأله أن يتم ما قصدنا إيراده، ويفتح لنا من خزائن جوده وكرمه ما يكون سبباً للوصول إلى العلم النافع، والهدى الكامل . واعلم أن علم التفسير أجل العلوم على الإطلاق، وأفضلها وأوجبها وأحبها إلى الله، لأن الله أمر بتدبر كتابه، والتفكر في معانيه، والاهتداء بآياته، وأثنى على القائمين بذلك، وجعلهم في أعلى المراتب، ووعدهم أسنى المواهب، فلو أنفق العبد جواهر عمره في هذا الفن، لم يكن ذلك كثيراً في جنب ما هو أفضل المطالب، وأعظم المقاصد، وأصل الأصول كلها، وقاعدة أساس السعادة في الدارين، وصلاح أمور الدين والدنيا والآخرة، وبه يتحقق للعبد حياة زاهرة بالهدى والخير والرحمة، ويهيء الله له أطيب الحياة والباقيات الصالحات . فلنشرع الآن بذكر القواعد والضوابط على وجه الإيجاز الذي يحصل به المقصود، لأنه إذا انفتح للعبد الباب، وتمهدت بفهم القاعدة الأسباب، وتدرب منها بعدة أمثلة توضحها وتبين طريقها ومنهجها، لم يحتج إلى زيادة البسط وكثرة التفاصيل، ونسأله تعالى أن يمدنا بعونه ولطفه وتوفيقه، وأن يجعلنا هادين مهتدين بمنه وكرمه وإحسانه . _______________________ القاعدة الأولى : كيـــف تلقـــــي التفسيــــر كل من سلك طريقاً وعمل عملاً، وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه، فلا بد أن يفلح وينجح ويصل به إلى غايته، كما قال تعالى: { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } [البقرة: 189] . وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعين البحث التام عن أمثل وأقوم الطرق الموصلة إليه، ولا ريب أن ما نحن فيه هو أهم الأمور وأجلها، بل هو أساسها وأصلها . فاعلم أن هذا القرآن العظيم أنزله الله لهداية الخلق وإرشادهم، وأنه في كل وقت وزمان ومكان يرشد إلى أهدى الأمور وأقومها { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] . فعلى الناس أن يتلقوا معني كلام الله كما تلقاه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فإنهم كانوا إذا قرأوا عشر آيات، أو أقل أو أكثر، لم يتجاوزوها حتى يعرفوا ويحققوا ما دلت عليه من الإيمان والعلم والعمل، فينزلونها على الأحوال الواقعة يؤمنون بما احتوت عليه من العقائد والأخبار، وينقادون لأوامرها ونواهيها، ويطبقونها على جميع ما يشهدون من الحوادث والوقائع الموجودة بهم وبغيرهم، ويحاسبون أنفسهم: هل هم قائمون بها أو مخلون بحقوقها ومطلوبها؟ وكيف الطريق إلى الثبات على الأمور النافعة، وتدارك ما نقص منها؟ وكيف التخلص من الأمور الضارة؟ فيهتدون بعلومه، ويتخلقون بأخلاقه وآدابه، ويعلمون أنه خطاب من عالم الغيب والشهادة موجه إليهم، ومطالبون بمعرفة معانيه، والعمل بما يقتضيه .فمن سلك هذا الطريق الذي سلكوه، وجَدّ واجتهد في تدبر كلام الله، انفتح له الباب الأعظم في علم التفسير، وقويت معرفته واستنارت بصيرته، واستغنى بهذه الطريقة عن كثرة التكلفات، وعن البحوث الخارجية، وخصوصاً إذا كان قد أخذ من علوم العربية جانباً قوياً، وكان له إلمام واهتمام بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحواله مع أوليائه وأعدائه، فإن ذلك أكبر عون على هذا المطلب . ومتى علم العبد أن القرآن فيه تبيان كل شيء، وأنه كفيل بجميع المصالح مبين لها، حاث عليها، زاجر عن المضار كلها، وجعل هذه القاعدة نصب عينيه، ونزلها على كل واقع وحادث سابق أو لاحق، ظهر له عظم مواقعها وكثرة فوائدها وثمرتها . القاعدة الثانية العبـرة بعمــوم اللــفظ لابخصــوص الإسبـــاب وهذه القاعدة نافعة جداً، بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير وعلم غزير، وبإهمالها وعدم ملاحظتها يفوته علم كثير، ويقع الغلط والارتباك الخطير . وهذا الأصل اتفق عليه المحققون من أهل الأصول وغيرهم، فمتى راعيت القاعدة حق الرعاية وعرفت أن ما قاله المفسرون من أسبـاب النزول إنما هوعلى سبيل المثـال لتوضيـح الألفاظ، و ليست معاني الألفاظ و الآيات مقصورةً عليها . فقولهم: نزلت في كذا و كذا، معناه: أن هذا مما يدخل فيها، ومن جملة ما يراد بها، فإن القرآن ـ كما تقدم ـ إنما نزل لهداية أول الأمة وآخرها، حيث تكون وأنى تكون . والله تعالى قد أمرنا بالتفكر والتدبر لكتابه، فإذا تدبرنا الألفاظ العامة، وفهمنا أن معناها يتناول أشياء كثيرة، فلأي شيء نخرج بعض هذه المعاني، مع دخول ما هو مثلها ونظيرها فيها ؟ ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه " إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعها سمعك، فإنه إما خير تُؤمر به، وإما شر تُنهى عنه " . فمتى مر بك خبر عن صفات الله وأسمائه، وعما يستحقه من الكمال، وما يتنزه عنه من النقص . فأثبت له جميع ذلك المعنى الكامل الذي أثبته سبحانه لنفسه ونزّهه عن كل ما نزه نفسه عنه، وكذلك إذا مر بك خبر عن رسله وكتبه واليوم الآخر، وعن جميع الأمور السابقة واللاحقة، فاجزم جزماً لا شك فيه أنه حق على حقيقته، بل هو أعلى أنواع الحق والصدق، قيلا و حديثا . وإذا أمر بشيء نظرت إلى معناه، وما يدخل فيه وما لا يدخل، وعلمت أن ذلك الأمر موجه إلى جميع الأمة، وكذلك في النهي . ولهذا كانت معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصلَ كل الخير والفلاح، والجهل بذلك أصل كل الشر والخسران . فمراعاة هذه القاعدة أكبر عون على معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله و القيام بها . والقرآن قد جمع أجل المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح الألفاظ وأحسنها كما قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [الفرقان:33]، يوضح ذلك ويبينه وينهج طريقته: القاعدة الثالثة الألف واللام الداخلة على الأوصاف و أسماء الأجناستفيد الاستغراق بحسب ما دخلت عليهوقد نص على ذلك أهل الأصول وأهل العربية، واتفق على اعتبار ذلك أهل العلم والإيمان . فمثلُ قوله تعالى:{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ـ إلى قوله تعالى ـ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الأحزاب: 35] يدخل في هذه الأوصاف كل ما تناوله من معاني الإسلام والإيمان والقنوت والصدق إلى آخرها . وأن بكمال هذه الأوصاف يكمل لصاحبها ما رتب عليها من المغفرة والأجر العظيم، وبنقصانها ينقص، وبعدمها يفقد، وهكذا كل وصف رتب عليه خير وأجر وثواب، وكذلك ما يقابل ذلك كل وصف نَهى الله عنه ورتب عليه وعلى المتصف به عقوبة وشراً ونقصاً، يكون له من ذلك بحسب ما قام به من الوصف المذكور، وكذلك مثل قوله تعالى: { إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } [المعارج من 19: 21]، عام لجنس الإنسان . فكل إنسان هذا وصفه إلا من استثنى الله بقوله: { إِلَّا الْمُصَلِّين َ} [المعارج:22] إلى آخرها كما أن قوله:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } [العصر 1،2] دال على أن كل إنسان عاقبته ومآله إلى الخسار { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [العصر:3] وأمثال ذلك كثير . وأعظم ما تعتبر به هذه القاعدة: في الأسماء الحسنى، فإن في القرآن منها شيئاً كثيراً، وهي من أجل علوم القرآن بل هي المقصد الأول للقرآن . فمثلاً يخبر الله عن نفسه: أنه الرب الحي القيوم، وأنه الملك والعليم والحكيم، والعزيز والرحيم، والقدوس السلام، والحميد المجيد . فالله هو الذي له جميع معاني الربوبية التي يستحق أن يؤله لأجلها وهي صفات الكمال كلها، والمحامد كلها له، والفضل كله، والإحسان كله، وأنه لا يُشارِك اللهَ أحد في معنى من معاني الربوبية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11] لا بشر ولا مَلَك، بل هم جميعاً عبيد مربوبون لربهم بكل أنواع الربوبية، مقهورون خاضعون لجلاله وعظمته، فلا ينبغي أن يكون أحد منهم نداً، ولا شريكا لله في عبادته وإلهيته، فبربوبيته سبحانه يربي الجميع من ملائكة وأنبياء وغيرهم: خلقاً ورزقاً وتدبيراً وإحياء وإماتة، وهم يشكرونه على ذلك بإخلاص العبادة كلها له وحده، فيؤلهونه ولا يتخذون من دونه ولياً ولا شفيعاً، فالإلهية حق له سبحانه على عبادته بصفة ربوبيته، وأنه الملك الذي له جميع معاني الملك، وهو الملك الكامل والتصرف النافذ، وأن الخلق كلهم مماليك لله، عبيد تحت أحكام ملكه القدرية والشرعية والجزائية ، وأنه العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي أحاط علمه بالبواطن والظواهر والخفيات والجليات والواجبات والمستحيلات، والجائزات . والأمور السابقة واللاحقة والعالم العلوي والسفلي والكليات والجزئيات . وما يعلم الخلق وما لا يعلمون { و لا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255] وأنه الحكيم الذي له الحكمة التامة الشاملة لجميع ما قضاه وقدره وخلقه، وجميع ما شرعه لا يخرج عن حكمته، لا مخلوق ولا مشروع، وأنه العزيز الذي له جميع معاني العزة على وجه الكمال التام من كل وجه، عزة القوة وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وأن جميع الخلق في غاية الذل ونهاية الفقر، ومنتهى الحاجة والضرورة إلى ربهم، وأنه الرحمن الرحيم الذي له جميع معاني الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، ولم يخل مخلوق من إحسانه وبره طرفة عين . تبلغ رحمته حيث يبلغ علمه { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً } [غافر: 7] وأنه القدوس السلام، المعظم المنزه عن كل عيب وآفة ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له ند من خلقه . وهكذا بقية الأسماء الحسنى، اعتبرْها بهذه القاعدة الجليلة ينفتح لك باب عظيم من أبواب معرفة الله، بل أصل معرفة الله تعالى معرفة ما تحتوي عليه أسماؤه الحسنى، وتقتضيه من المعاني العظيمة، بحسب ما يقدر عليه العبد، وإلا فلن يبلغ علم أحد من الخلق بذلك، ولن يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده . ومن ذلك قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2]، يشمل جميع أنواع البر والخير، وتشمل التقوى جميع ما يجب اتقاؤه من أنواع المَخُوفات و المعاصي والمحرمات . والإثم: اسم جامع لكل ما يؤثم، ويوقع في المعصية . كما أن العدوان: اسم جامع يدخل فيه جميع أنواع التعدي على الناس في الدماء والأموال والأعراض، والتعدي على مجموع الأمة، وعلى الحكومات والتعدي على حدود الله . و" المعروف " في القرآن: اسم جامع لكل ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً، وعكسه: المنكر والسوء والفاحشة . وقد نبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته إلى هذه القاعدة، وأرشدهم إلى اعتبارها إذ علمهم أن يقولوا في التشهد في الصلاة: ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) فقال: ( فإنكم إذا قلتم ذلك سلمتم على كل عبد صالح من أهل السماء والأرض ) [ رواه البخاري ] وأمثلتها في القرآن كثيرة جداً القاعدة الرابعة إذا وقعت النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام دلت على العموم كقوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } [النساء: 36] فإنه نهى عن الشرك به في النيات، والأقوال والأفعال، وعن الشرك الأكبر، والأصغر والخفي، والجلي . فلا يجعل العبد لله نداً ومشاركاً في شيء من ذلك . ونظيرها قوله: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً } [البقرة: 22] . وقوله في وصف يوم القيامة: { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [الانفطار: 19]، يعم كل نفس، وأنها لا تملك شيئاً من الأشياء، لأي نفس أخرى، مهما كانت الصلة، لا إيصال شيء من المنافع، ولا دفع شيء من المضار . وكقوله تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [يونس: 107]، فكل ضر قدره الله على العبد ليس في استطاعة أحد من الخلق كائنا من كان كشفه بوجه من الوجوه . ونهاية ما يقدر عليه المخلوق من الأسباب والأدوية: إنما هو جزء من أجزاء كثيرة داخلة في قضاء الله وقدره . وقوله:{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }[فاطر: 2] وقوله { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [النحل: 53] يشمل كل خير في العبد ويصيب العبد، وكل نعمة فيها حصول محبوب، أو دفع مكروه، فإن الله هو المنفرد بذلك وحده . وقوله { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُو } [فاطر: 3]، وإذا دخلت [ من ] صارت نصاً في العموم كهذه الآية: { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة:47] وقوله { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف: 59]، ولها أمثلة كثيرة جداً . القاعدة الخامسة المقرر: أن المفرد المضاف يفيد العموم كما يفيد ذلك اسم الجمع فكما أن قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: 23] إلى آخرها يشمل كل أم انتسبت إليها، وإن علت . وكل بنت انتسبت إليك وإن نزلت ـ إلى آخر المذكورات ـ فكذلك قوله تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى:11] فإنها تشمل النعم الدينية والدنيوية، وقوله: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام:162] فإنها تعم الصلوات كلها، والأنساك كلها، وجميع ما العبد فيه وعليه في حياته ومماته، الجميع من الله فضلاً وإحساناً، وأنك قد أتيت ما أتيت منه وأوقعته وأخلصته لله وحده، لا شريك له . وقوله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } [البقرة: 125] على أحد القولين: إنه يشمل جميع مقاماته في مشاعر الحج: اتخذوه معبداً . وأصْرَح من هذا قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [النحل: 123]، وهذا شامل لكل ما هو عليه من التوحيد والإخلاص لله تعالى، والقيام بحق العبودية . وأعم من ذلك وأشمل: قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] فأمره الله أن يقتدي بجميع ما عليه المرسلون من الهدى، الذي هو العلوم النافعة والأخلاق الزاكية، والأعمال الصالحة، والهدى المستقيم . وهذه الآية أحد الأدلة على الأصل المعروف: [ أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ] وشرع الأنبياء السابقين هو هداهم في أصول الدين وفروعه، وكذلك قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } [الأنعام: 153]، وهذا يعم جميع ما شرعه لعباده، فعلاً وتركاً، اعتقاداً وانقياداً، وأضافه إلى نفسه في هذه الآية لكونه هو الذي نصبه لعباده، كما أضافه إلى الذين أنعم عليهم في قوله { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] لكونهم هم السالكين له . فصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ما اتصفوا به من العلوم والأخلاق والأوصاف والأعمال وكذلك قوله { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [الكهف: 110] يدخل في ذلك جميع العبادات الظاهرة والباطنة، العبادات الاعتقادية والعملية، كما أن وصف الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعبودية المضافة إلى الله كقوله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الاسراء: 1] وكقوله { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة:23] وقوله { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }[الفرقان: 1] تدل على أنه وفَّي جميع مقامات العبودية، حيث نال أشرف المقامات بتوفيته لجميع مقامات العبودية، وقوله: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] فكلما كان العبد أقوم بحقوق العبودية كانت كفاية الله له أكمل وأتم، وما نقص منها نقص من الكفاية بحسبه . وقوله: { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر:50] وقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل:40] يشمل جميع أوامره القدرية الكونية . وهذا في القرآن شيء كثير . القاعدة السادسة في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده القرآن كله لتقرير التوحيد ونفي ضده، وأكثر الآيات يقرر الله فيها توحيد الألوهية، وإخلاص العبادة لله وحده، لا شريك له، ويخبر أن جميع الرسل إنما أرسلت تدعوا قومها إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأن الله تعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأن الكتب والرسل بل الفطر والعقول السليمة كلها اتفقت على هذا الأصل، الذي هو أصل الأصول كلها، وأن من لم يَدِنْ بهذا الدين الذي هو إخلاص العبادة والقلب والعمل لله وحده فعمله باطل { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 88]، ويدعوا العباد إلى ما تقرر في فطرهم وعقولهم من أن الله المنفرد بالخلق والتدبير والمنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة: هو الذي يستحق العبادة وحده، ولا ينبغي أن يكون شيء منها لغيره، وأن سائر الخلق ليس عندهم أي قدرة على خلق، ولا نفع، ولا دفع ضر، عن أنفسهم فضلا عن أن يغنوا عن أحد غيرهم من الله شيئا . ويدعوهم أيضاً إلى هذا الأصل بما يَتَمَدَّح به، ويُثني على نفسه الكريمة، من تفرده بصفات العظمة والمجد، والجلال والكمال، وأن من له هذا الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه مشارك: أحق من أُخلصت له الأعمال الظاهرة والباطنة . ويقرر هذا التوحيد بأنه هو الحاكم وحده، فلا يحكم غيره شرعاً ولا جزاء { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [يوسف: 40] . وتارة يقرر هذا بذكر محاسن التوحيد، وأنه الدين الوحيد الواجب شرعاً وعقلاً وفطرة، على جميع العبيد، وبذكر مساوئ الشرك وقبحه، واختلال عقول أصحابه بعد اختلال أديانهم، وتقليب أفئدتهم، وكونهم أضل من الأنعام سبيلا . وتارة يدعو إليه بذكر ما رتب عليه من الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة في الدور الثلاث، وما رتب على ضده من العقوبات العاجلة والآجلة، وكيف كانت عواقب المشركين أسوأ العواقب وشرها . وبالجملة: فكل خير عاجل وآجل، فإنه من ثمرات التوحيد، وكل شر عاجل وآجل، فإنه من ثمرات الشرك والله أعلم . القاعدة الثالثة عشرة طريقة القرآن في الحجاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلةقد أمر الله بالمجادلة بالتي هي أحسن، ومن تأمل الطرق التي نصب الله المحاجَّة بها مع المبطلين على أيدي رسله رآها من أوضح الحجج وأقواها، وأقومها وأدلها على إحقاق الحق وإزهاق الباطل، على وجه لا تشويش فيه ولا إزعاج . فتأمل محاجة الرسل مع أممهم، وكيف دعَوْهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، من جهة أنه المتفرد بالربوبية، والمتوحد بالنعم، وهو الذي أعطاهم العافية، والأسماع والأبصار، والعقول والأرزاق، وسائر أصناف النعم، كما أنه المنفرد بدفع النقم، وأن أحداً من الخلق ليس يقدر على رفع ولا دفع، ولا ضر ولا نفع، فإنه بمجرد معرفة العبد ذلك واعترافه به لابد أن ينقاد للدين الحق، الذي به تتم النعمة، وهو الطريق الوحيد لشكرها . وكثيراً ما يحتج على المشركين في شركهم وعبادتهم لآلهتهم من دون ربهم بإلزامهم باعترافهم بربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء، والرازق لكل شيء، فيتعين أن يكون هو المعبود وحده . فانظر إلى هذا البرهان، وكيف ينتقل الذهن منه بأول وهلة إلى وجوب عبادة من هذا شأنه، ذلك أن آثار ربوبيته تنادي بوجوب الإخلاص له . ويجادل المبطلين أيضاً بذكر عيب آلهتهم، وأنها ناقصة من كل وجه، لا تغنى عن نفسها فضلاً عن عابديها شيئاً . ويقيم الأدلة على أهل الكتاب بأن لهم من سوابق المخالفات لرسلهم ما لا يستغرب معه مخالفتهم لرسوله الخاتم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي جاء مصدقاً لما سبقه من الرسالات التي مقصدها جميعاً واحد، وهو فك أغلال التقليد عن قلوب بني آدم لينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم بالتفكر في آيات ربهم، فيعرفوا بذلك أنه الإله الحق، وأن كل ما اتخذه الناس بوحي شياطين الإنس والجن من آلهة، فلا يخرج شيء منها عن أن يكون أثراً من آثار هذه الآيات، وأنها لذلك لا تليق بأي وجه لمشاركة ربها وخالقها فى الإلهية، ولا ينبغي أن تعطى إلا حقها في المخلوقية والعبودية . وأن الخالق الذي ليس كمثله شيء هو المستحق لكل أنواع العبادة، وأن لا يعبد إلا بما أحب وشرع . وينقض على رؤساء المشركين ودعاة الباطل دعاويهم الباطلة وتزكيتهم لأنفسهم بالزور، ببيان ما يضاد ذلك من أحوالهم وأوصافهم، ويجادلهم بتوضيح الحق وبيان براهينه، وأن صدقه وحقيقتَه تدفع بمجردها جميع الشبه المعارضة له . {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ يونس: 32] وهذا الأصل في القرآن كثير، فإنه يفيد فى الدعوة للحق، ورد كل باطل ينافيه . ويجادلهم بوجوب تنزيل الأمور منازلها، وأنه لا يليق أن يجعل للمخلوق العبد الفقير العاجز من كل وجه شيئاً من حقوق الرب الخالق الغني الكامل من جميع الوجوه . ويتحداهم أن يأتوا بكتاب أو شريعة أهدى وأحسن من هذا الكتاب ومن هذه الشريعة، وأن يعارضوا القرآن فيأتوا بمثله إن كانوا صادقين . ويأمر نبيه بمباهلة من ظهرت مكابرته وعناده فينكصون عنها، لعلمهم أنه رسول الله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى وأنهم لو باهلوه لهلكوا . وفي الجملة لا تجد طريقاً نافعاً فيه إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا وقد رسمه القرآن على أكمل الوجوه . القاعدة الرابعة عشرة حذف المتعلق المعمول فيه: يفيد تعميم المعنى المناسب له وهذه قاعدة مفيدة جداً، متى اعتبرها الإنسان في الآيات القرآنية أكسبته فوائد جليلة . وذلك أن الفعل وما هو معناه متى قيد بشيء تقيد به، فإذا أطلقه الله تعالى، وحذف المتعلق كان القصد من ذلك التعميم، ويكون الحذف هنا أحسن وأفيد كثيراً من التصريح بالمتعلقات، وأجمع للمعاني النافعة . ولذلك أمثلـة كثيـرة جـداً: منها: أنه قال في عدة آيات { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 151،152،153] فيدل ذلك على أن المراد: لعلكم تعقلون عن الله كل ما أرشدكم إليه وكل ما علمكموه، وكل ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة، ولعلكم تذكرون، فلا تنسون ولا تغفلون، فتكونون دائماً متيقظين مُرْهفي الحواس تحسون كل ما تمرون به من سنن الله وآياته، فتذكرون جميع مصالحكم الدينية والدنيوية، ولعلكم تتقون جميع ما يجب اتقاؤه من الغفلة والجهل والتقليد، وكل ما يحاول عدوكم أن يوقعكم فيه من جميع الذنوب والمعاصي، ويدخل في ذلك ما كان سياق الكلام فيه وهو فرد من أفراد هذا المعنى العام . ولهذا كان قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183]: يفيد كل ما قيل في حكمة الصيام، أي لعلكم تتقون المحارم عموماً، ولعلكم تتقون ما حرم الله على الصائمين من المفطرات والممنوعات، ومن كل الأحوال والصفات السيئة والخبيثة، ولعلكم تتصفون بصفة التقوى، وتحصلون على كل ما يقيكم مما تكرهون، وتتخلقون بأخلاقها، وهكذا سائر ما ذكر فيه هذا اللفظ مثل قوله { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] أي المتقين لكل ما يُتقى من الكفر و الفسوق و العصيان، المؤدين للفرائض والنوافل التي هي خصال التقوى . وكذلك قوله { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف:201] أي إن الذين كانت التقوى وصفهم، واليقظة والتدبر لسنن الله وآياته حالهم، وترك المحارم شعارهم متى زين لهم الشيطان بعض الذنوب ولبس عليهم الطريق، وحاول تخديرهم بالشبهات أو الشهوات، تذكروا كل أمر يوجب لهم المبادرة إلى المتاب إجلالاً لعظمة الله، وما يقتضيه الإيمان وما توجبه التقوى، وتذكروا عقابه ونكاله، وتذكروا ما تحدثه الذنوب من العيوب والنقائص وما تسلبه من الكمالات، فإذا هم مبصرون من أين أُتوا، ومبصرون الوجه الذي فيه التخلص من هذا الذنب الذي وقعوا فيه، فبادروا بالتوبة النصوح والرجوع إلى صراط الله المستقيم، فعادوا إلى مرتبتهم وعاد الشيطان خاسئاً مدحوراً . وكذلك ما ذكره على وجه الإطلاق عن المؤمنين بلفظ " المؤمنين " وبلفظ { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } [البقرة: 62] ونحوها، فإنه يدخل فيه جميع ما يجب الإيمان به من الأصول والعقائد والأعمال والأحكام، مع أنه قيد ذلك في بعض الآيات مثل قوله: { قُولُوا آمَنَّا بِالله } الآية [ البقرة136] وكذلك ما أمر به من الصلاح والإصلاح، وما نهى عنه من الفساد والإفساد مطلقاً، يدخل فيه كل صلاح كما يدخل في النهي كل فساد كذلك . وكذلك قوله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 195] { وَأَحْسِنُوا } [البقرة: 195]، { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } [يونس: 26]{ هَلْ جَزَاءُ الْإحْسَانِ إِلَّا الْإحْسَانُ } [الرحمن:60] يدخل في ذلك كله الإحسان في عبادة الخالق بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى المخلوقين بجميع وجوه الإحسان من قول وفعل وجاه، وعلم ومال وغيرها . وكذلك قوله تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } [التكاثر:1] فحذف المتكاثَر به ليعم جميع ما يقصد الناس فيه المكاثرة: من الرياسات والأموال والجاه والضيعات والأولاد، وغيرها مما تتعلق به أغراض النفوس فيلهيها ذلك عن طاعة الله . وكذلك قوله تعالى { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } [العصر:1،2] أي في خسارة لازمة من جميع الوجوه إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر . وقوله { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] فذكر المسئولين وأطلق المسئول عنه، ليعم كل ما يحتاجه العبد ولا يعلمه . وكذلك أمره تعالى بالصبر، ومحبته للصابرين، وثناؤه عليهم، وبيان كثرة أجورهم، من غير أن يقيد ذلك بنوع، ليشمل أنواع الصبر الثلاثة، وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة . ومقابل ذلك ذمه للكافرين والظالمين والفاسقين والمشركين والمنافقين والمعتدين ونحوهم، من غير أن يقيده بشئ ليشمل جميع ذلك المعنى . ومن هذا قوله { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } [البقرة: 196] ليشمل كل حصر، ومنه قوله { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [البقرة: 239] ليعم كل خوف . وقد يقيد ذلك ببعض الأمور فيتقيد به ما سيق الكلام لأجله . وهذا شيء كثير لو ذهبنا نذكر أمثلة عليه لطالت، ولكن قد فتح لك الباب، فامش على هذا السبيل المفضي إلى رياض بهيجة من أصناف العلوم . القاعدة الخامسة عشرة جعل الله الأسباب للمطالب العالية مبشرات لتطمين القلوب وزيادة الإيمان وهذا في عدة مواضع من كتابه، فمن ذلك: النصر قال في إنزال الملائكة به: { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } [الأنفال: 10] وقال في أسباب الرزق ونزول المطر: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } [الروم: 46] . وأعم من ذلك كله قوله:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [يونس من 62: 64] وهي كل دليل وعلامة تدلهم على أن الله قد أراد بهم الخير، وأنهم من أوليائه وصفوته، فيدخل فيه الثناء الحسن والرؤيا الصالحة، ويدخل فيه ما يشاهدونه من اللطف والتوفيق، والتيسير لليسرى، وتجنيبهم العسرى؛ لأن الله يقول: { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } . [ الليل: 5-7 ]، و يقول: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } . [ الطلاق: 4 ]، فإذا رأيت الأمور متيسرة لك ومسهلة، وأن الله يقدر لك الخير حتى وإن كنت لا تحتسبه، فهذه لا شك أنها بشرى، وإذا رأيت الأمر بالعكس فصحح مسارك فإن فيك بلاءً، والنعم ما تكون استدراكا إلا لمن أقام على معصية الله، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } . . . .[ الأعراف: 182 ]، أما إذا كانت من المؤمن فليست استدراجا . ومن ذلك: بل من ألطف من ذلك أنه يجعل الشدائد مبشرة بالفرج، والعسر مؤذناً باليسر، وإذا تأملت ما قصه عن أنبيائه وأصفيائه، وكيف لما اشتدت بهم الحال، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، { وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ } . [ البقرة: 214 ] { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214] رأيت من ذلك العجب العجاب . وقـال تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } . [الشـرح:5، 6] وقـال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ) وأمثلة ذلك كثيرة، والله أعلم . القاعدة السادسة عشرة حذف جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد وذلك كقوله: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [السجدة: 12] { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ } [سـبأ: 51] { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } [البقرة: 165] { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } [الأنعام: 30] { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ } [الأنعام: 27] . فحذْف الجواب في هذه الآيات وشبهها أولى من ذِكْره، ليدل على عظمة ذلك المقام، وأنه لهوله وشدته وفظاعته لا يعبَّر عنه بلفظ ولا يُدرك بالوصف، مثله قوله تعالى: { كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } [التكاثر:5] أي لما أقمتم على ما أنتم عليه من التفريط والغفلة واللهو القاعدة السابعة عشرة بعض الأسماء الواردة في القرآن إذا أفرد دل على المعنى المناسب له، وإذا قرن مع غيره دل على بعض المعنى، ودل ما قرن معه على باقيهولهذه القاعدة أمثلة كثيرة منها: الإيمان، أُفرد وحده في آيات كثيرة، وقُرن مع العمل الصالح في آيات كثيرة . فالآيات التي أُفرد فيها يدخل فيه جميع عقائد الدين وشرائعه الظاهرة والباطنة، ولهذا يرتب الله عليه حصول الثواب، والنجاة من العقاب، ولولا دخول المذكورات ما حصلت آثاره . وهو عند السلف: قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح . والآيات التي قرن الإيمان فيها بالعمل الصالح: كقوله { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [البقرة: 277] يُفسَّر الإيمان فيها بما في القلوب من المعارف والتصديق، والاعتقاد والإنابة . والعمل الصالح بجميع الشرائع القولية والفعلية . وكذلك لفظ " البر والتقوى " فحيث أفرد البر دخل فيه امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك إذا أفردت التقوى . ولهذا يرتب الله على البر وعلى التقوى عند الإطلاق: الثواب المطلق والنجاة المطلقة كما يرتبه على الإيمان . وتارة يُفسِّر أعمال البر بما يتناول أفعال الخير وترك المعاصي، وكذلك في بعض الآيات تفسير خصال التقوى، كما في قوله: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ } [آل عمران: 133، 134] إلى آخر ما ذكره من الأوصاف التي تتم بها التقوى . وإذا جمع بين البر والتقوى مثل قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة: 2] كان [ البر ] اسماً جامعاً لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة . وكانت [ التقوى ] اسماً جامعاً يتناول ترك جميع المحرمات . وكذلك لفظ [ الإثم ] و [ العدوان ] إذا قرنا، فسر الإثم بالمعاصي التي بين العبد وبين ربه، والعدوان بالتجرىء على الناس في دمائهم وأعراضهم . وإذا أفرد [ الإثم ] دخل فيه كل المعاصي التي تُؤثِّم صاحبها، سواء كانت بينه وبين ربه أو بينه وبين الخلق، وكذلك إذا أفـرد [ العدوان ] . وكذلك لفظ [ العبادة والتوكل ] ولفظ [ العبادة والاستعانة ] إذا أفردت العبادة في القرآن تناولت جميع ما يحبه الله ويرضاه ظاهراً وباطناً، ومن أول وأهم ما يدخل فيها: التوكل والاستعانة . وإذا جُمع بينها وبين التوكل والاستعانة نحو { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123] فسرت العبادة بجميع المأمورات الباطنة والظاهرة، وفسر التوكل باعتماد القلب على الله في حصولها وحصول جميع المنافع ودفع المضار ـ مع الثقة التامة بالله في حصولها ـ . وكذلك [ الفقير والمسكين ] إذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر كما في أكثر الآيات، وإذا جمع بينهما كما في آية الصدقات وهي قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [التوبة: 60] فسٍّر الفقير بمن اشتدت حاجته وكان لا يجد شيئاً، أو من يجد شيئاً لا يقع منه موقعـاً، وفسـر [ المسكين ] بمن حاجته دون ذلك . ومثل ذلك الألفاظ الدالة على تلاوة الكتاب والتمسك به وهو اتباعه، ويشمل ذلك: القيامَ بالدين كله، فإذا قُرِنت معه الصلاة كما في قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ } [العنكبوت: 45] وقوله { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } [الأعراف: 170] كان ذكر الصلاة تعظيماً لها وتأكيداً لشأنها، وحثاً عليها، وإلا فهي داخلة في الاسم العام وهو التلاوة والتمسك به وما أشبه ذلك من الأسماء . موضوع منقول لوجه الله وللاستفاده والاجر المصدر: منتديات مدينة الاحلام r,hu] jtsdv hgrvhk hg;vdl التعديل الأخير تم بواسطة هاوي تصاميم ; 31 - 05 - 2008 الساعة 13:15. |
31 - 05 - 2008, 20:05 | رقم المشاركة : [2] | |||
| جزاك الله خير اخي الغالي على الموضوع الطيب ودمت بحفظ الرحمن | |||
29 - 01 - 2009, 18:33 | رقم المشاركة : [3] | ||
| جزاك الله خير اخوي الهاوي | ||
07 - 02 - 2009, 23:02 | رقم المشاركة : [4] | |||
| بارك الله فيك على الموضوع | |||
09 - 02 - 2009, 21:02 | رقم المشاركة : [5] | |||
| الله يجزيك الخير على الموضوع | |||
14 - 02 - 2009, 12:49 | رقم المشاركة : [6] | ||
| الاخ هاوي تصاميم الف شكر لك على الموضوع الرائع والجميل ننتظر الجديد | ||
18 - 02 - 2011, 22:51 | رقم المشاركة : [7] | |||
| رد: قواعد تفسير القران الكريم جزاك الله خيرا | |||
مواقع النشر (المفضلة) |
أدوات الموضوع | |
| |
Powered by vBulletin Version 3.8.7 Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd ترقية وتطوير: مجموعة الدعم العربى |